كانت حرب حزيران 67 حدثاً فارقاً في حياة العرب المسلمين وفي حياة الإسرائيليين اليهود، على السواء، فلم يكن غريباً أن يتصاعد المد الديني في البلاد العربية المحيطة بإسرائيل خصوصاً، بعد تلك الحرب الخاسرة التي نعتها العرب بـ "نكسة حزيران"، لكن ربما كان من الغريب أن المد الديني تصاعد في إسرائيل بعد انتصارها في تلك الحرب على العرب، وهي الكيان الذي تأسس على الصهيونية والاشتراكية معاً ومن ثم العلمانية!!
واليوم كما الأمس يلجأ الناس للدين والكتب المقدسة عند كل حدث مصيري ومفصلي، عندما يعجزون عن إيجاد تفسير مقنع للأحداث الكبرى، وأكثر من يلجأ للدين وكتبه المقدسة هم رجال الدين بطبيعة الحال، وفيما يتعلق بالحدث الأكبر، أي النكسة وما تلاها، وبعموم المسألة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل سنجد رجال دين في مختلف الأديان الإبراهيمية يبحثون في كتبهم المقدسة عن إشارات ولو بعيدة جداً، تخبر عن نهاية إسرائيل، أو ولادة إسرائيل الكبرى أو معركة القيامة وعودة المسيح وخلاف ذلك كثير..
ها هو نتنياهو يخرج علينا قبل أيام ببدعة جديدة، إذ هو قرر تغيير اسم الحرب على قطاع غزة وحماس ناعتاً إياها بحرب التكوين أو سفر التكوين
ولا يقتصر أمر اللجوء إلى الدين لتفسير الأحداث السياسية أو توقعها، على الناس العاديين، وعلى رجال الدين، بل إنه يتجاوزهم إلى القادة السياسيين من أمثال نتنياهو مثلاً وقبله ترامب.. وقبلهم جميعاً بوش الأب والابن، فعندما أيقن نتنياهو أن الحرب يمكن أن تنتهي دون تحقيق انتصار حاسم على حماس وأن ذلك قد يعني وصوله إلى السجن بتهم فساد سبق أن طالته، لجأ نتنياهو إلى آخر وسيلة يمكن أن تنقذه من السجن، كما لو أنه زعيم عربي أو زعيم قبيلة إفريقية.. لجأ إلى الدين، فخرج علينا بنظرية أشعيا التوراتي الذي تنبأ قائلاً إن "إسرائيل ستكون نوراً يترك كل الأمم في الظلام" ثم ها هو نتنياهو يخرج علينا قبل أيام ببدعة جديدة، إذ هو قرر تغيير اسم الحرب على قطاع غزة وحماس ناعتاً إياها بحرب التكوين أو سفر التكوين.. كل ذلك لشحذ مشاعر المتدينين اليهود والصهاينة المسيحيين حول العالم لدعمه عبر دعم إسرائيل، وليس العكس.. والرجل معذور، إذ إن مصيره صار على المحك وهو يقترب يوماً بعد يوم من السجن، وهو في سبيل تفادي هذا المصير الشخصي المؤكد مستعد لحرق غزة وإسرائيل معاً، بل هو مستعد لإعلان حرب دينية تدمر الشرق الأوسط وربما العالم في حال انضم إليه ترامب، لو نجح في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فهذا الأخير هو صهيوني توراتي بامتياز فهو من أعلن عن القدس عاصمة لإسرائيل واعترف بضم إسرائيل للجولان المحتل.
نتنياهو يدق طبول الحرب الدينية لشحذ الدعم من أميركا
يمكن القول إن نتنياهو أعلن حرباً دينية يهودية على حماس ومن وراءها وحولها على الإسلام، في خطاب له خطير استعان فيه بنبي توراتي هو أشعيا، حيث قال أمام حشد من مؤيديه: "في إيماننا العميق بأبدية إسرائيل سنحقق نبوءة أشعيا في الحرب على غزة وضد إيران وحزب الله" ما يفهم أنه استبطان من نتنياهو وتوظيف للتاريخ والدين معاً في سبيل تبرير تدمير غزة وليس تدمير حماس فحسب، ورداً على إعلانه الحرب الدينية، لم ينتظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من أربع وعشرين ساعة للرد على نتنياهو موجهاً خطابه له وللتيار المسيحي الصهيوني من ورائه قائلاً بوضوح: "إن أردتم صراعاً بين الهلال والصليب، فليكن"، ما دفع إسرائيل لسحب كل ممثلياتها من تركيا، في تصعيد جديد بين البلدين، وربما كرد على موقف أردوغان، من الحكومة الإسرائيلية ولسان حالها يقول: نعم نريدها حرباً دينية!!
في الواقع فإن نتنياهو يحتاج إلى هذا الخطاب السياسي الديني لشد عصب مؤيديه، ولذر الرماد في عيون المحايدين، علّه بذلك يحشد الإسرائيليين خلفه تملصاً من المحاكمة التي تنتظره لمحاسبته عن قضايا فساد، وهو لأجل تجنب هذا المصير أدخل إسرائيل في أزمة وجودية عندما غضّ نظره عن استعدادات حماس لضرب إسرائيل، بل ربما انتظر الحرب بفارغ الصبر، علّه بذلك ينجو من المحاكمة، التي ستوصله حكماً إلى السجن.
خطابه ليس للإسرائيليين فحسب، بل قبل ذلك للمسيحيين الإنجيليين الذين يعتبرون وجود دولة يهودية شرطاً أساسياً لتحقيق "المجيء الثاني" للسيد المسيح
استحضار نتنياهو لنبوءة أشعيا لم يكن من فراغ، فهو يوجه خطابه ليس للإسرائيليين فحسب، بل قبل ذلك للمسيحيين الإنجيليين الذين يعتبرون وجود دولة يهودية شرطاً أساسياً لتحقيق "المجيء الثاني" للسيد المسيح، فإن دعم إسرائيل عند هؤلاء هو من أولى أولوياتهم، إذ يقول هؤلاء إن بقاء إسرائيل ضروري لغاية وجود بيئة يهودية لاستقبال المسيح القادم، والذي سيخيّر اليهود بين الإيمان به أو الموت.
ونتنياهو يلعب على مشاعر هؤلاء المتدينين باستدعائه نبياً توراتياً يستعين به لإنقاذ نفسه موحياً لهؤلاء أنهم بدعمه إنما ينقذون إسرائيل التي أصبحت معركتها مع حماس معركة حياة أو موت بحسب إحدى تصريحاته الأخيرة...
السياسة عندما تصل إلى مأزق تستخدم الدين، ليس في الشرق فحسب، كما يحاول بعض المتأثرين بالذهنية الاستشراقية من العرب أن يقنعونا، إنما على ما يبدو في كل مكان من هذا العالم الذي تحكمه المصالح فحسب، وليس الأخلاق أو المنطق للأسف.