في الحياة كما في السياسة يمكن أن يكون للأفعال والأقوال نتائج معاكسة تماما، ومخالفة لما يعتقده المراقب.. وقد يحدث ذلك عفوا دون قصد أو بنية مسبقة، فإذا تكررت النتائج والمحصلات المعاكسة للأفعال والأقوال، فلا بد أن تكون بنيّة مضمرة وعن سابق قصد..
على سبيل المثال فالسياسة الأميركية حيال روسيا والجمهور الروسي بعد حرب أوكرانيا تظهر أنها سياسة عكسية، أي أنها تفعل على الأرض تماما عكس ما يعتقده الجمهور البسيط.
نقرأ ما كتبه مايكل كيماج. ماريا ليبمان بمقال بعنوان "خيارات بوتين الصعبة" المنشور بصحيفة إندبندنت عربي، "الولايات المتحدة كوسيلة للتعبير عن الرأي المناهض للحرب أو المناهض لبوتين داخل روسيا ليست غير محتملة فحسب، بل يكاد يكون من المؤكد أنها ستؤدي إلى نتائج عكسية. يجب أن تحاول الولايات المتحدة أن تظهر رسمياً بمظهر المحايد بشأن السياسة الروسية الداخلية، وأن تكون كذلك فعلاً. كما ينبغي عليها أن تمتنع عن التعليق العلني وألا تنحاز إلى حركات المعارضة. ولا يتعلق هذا بالخوف من الحساسيات السياسية للكرملين. فالهدف هو ترك فضاء السياسة الروسية مفتوحاً أمام الروس للتحرك نحو روسيا ما بعد بوتين بأدواتهم الخاصة".
هذه السياسة العكسية الأميركية تجاه الجمهور الروسي، يمكن أن تكشف لنا الغاية الحقيقية لسياسة أميركا تجاه الجمهور السوري خلال الثورة، فمشاركة السفير الأميركي في دمشق، في مظاهرة مدينة حماة، وسّعت الشق بين المتظاهرين والحكومة السورية من ناحية، الأمر الذي حسم الموقف داخل النظام لصالح الفريق الذي يقول إن الثورة هي مؤامرة دولية بقيادة أميركا، وهؤلاء كانت تقودهم بثينة شعبان، على حساب الفريق الذي يرى أنها حركة شعبية تطالب بحقوق معقولة وهذا الفريق كان بقيادة العماد علي حبيب.. وهو ما سمح للفريق الأول بمواجهة الاحتجاجات الشعبية بعنف متصاعد، ومن ثم بإسقاط أي إمكانية للحوار والتهدئة.
فقد جاء الموقف الأميركي العلني الداعم للثورة لصالح فريق إيران داخل النظام.. الأمر الذي برّر له إطلاق يديه في كل مكان داخل سوريا.. وهذا مثال عن السياسة العكسية التي مارستها أميركا في سوريا وروسيا، فهي كانت ألّبت بشكل غير مباشر النظام على الثورة الشعبية.. وكذلك هي تستخدم ذات السياسة في روسيا الآن، في محاولة منها لتأليب الشعب الروسي على بوتين.
السياسة العكسية والأنظمة العربية
في الوقت الذي تدعم فيه دول غربية تنظيمات إسلامية وأنظمة ديكتاتورية بالسر، وكل منها على حدة، تقوم هذه الدول بتسليط كل من التنظيمات والأنظمة ضد بعضها البعض لتضمن ولاء كل طرف منهما لها، فيما يسمى عملية الاحتواء المزدوج، بحيث يبقى الجميع في حالة توتر واستنزاف أو في حالة حرب، فهذه الأنظمة والدول من ناحية أخرى تعلن حربها على السلفية والإخوان، الأمر الذي يدفع الشعب، كرد فعل على موقف الغرب والأنظمة التي تحكمه، للتضامن مع السلفية والإخوان من باب النكاية بالغرب والأنظمة، وعلى اعتبار أن "عدو عدوي، صديقي". والسياسة العكسية تتمثل في إظهار النظام معاداته للإسلاميين في وقت يقوم هو بتأسيس تنظيماتهم داخل سجونه ثم يطلقهم ويمدهم بالسلاح أو يغمض العين عن شرائهم السلاح من تجار تابعين للنظام، أو تهريبا عبر الحدود.
وفي وقت يدّعي فيه نظام ديكتاتوري أو مخابراتي أنه نظام علماني يقوم باعتقال العلمانيين ويمنع أي من نوع من أنواع الحريات السياسية، ثم هو بعد ذلك يمنع الحريات الثقافية ومن بعدها يمنع الحرية الاقتصادية، فتتم له الهيمنة على الثقافة والتعليم والتجارة والزراعة والصناعة.
ولأجل القضاء تماما على أي شيء له علاقة بالعلمانية، فهو يدفع الشارع دفعا لكراهية العلمانية والحريات، بحيث يسمح النظام لبعض العلمانيين (ولاسيما العلمانيات) بالدعوة للحريات الجنسية وحرية المرأة، الأمر الذي يُحدث ردود فعل عكسية عند الناس، ضد العلمانيين والعلمانية، ثم إن أجهزة النظام تأتي بعلمانيين شكليين مؤيدين للنظام الديكتاتوري انطلت عليهم كذبة علمانية النظام، أو هم يرون العلمانية كما لو أنها حالة شكلية تتعلق بالمظهر من لباس وسلوك وطقوس شرب حشيش أو مشروبات كحولية وعلاقات منفتحة... (فحين يسمح النظام بهذه المظاهر بين نخبة محددة فهو علماني بنظر هؤلاء، ويغيب عن ذهنهم أن جوهر العلمانية يتمثل في كونها حالة حياد وتنظيم مرور لتعبيرات ومصالح القوى المجتمعية المتعددة المختلفة كي لا تصل إلى حالة الخلاف والصراع العنفي)، وفي المقلب الآخر يقوم مشايخ النظام ودعاته وأبواقه الدينيين في نفس الوقت وبشكل متصاعد ومحموم وعلني وعبر وسائل إعلام النظام أو وسائط التواصل بنشر خطاب يحرّض على مزيد من الانغلاق والتشدد السلوكي، في وقت تقوم صحافة صفراء موالية للنظام بنشر كل غثاثات وتفاهات النخبة الفنية والمخملية لتزيد العقل تسطيحا والغرائز اشتعالا.
ولأجل أن يكسب ود الشارع، لم يمانع النظام الأمني في بناء دور العبادة بل شجع عليها فوصلت إلى اثني عشر ألف مسجد مقابل عشرين مليون إنسان في بلد صغير مثل سوريا، فهل تساءل أحد منا يوما لماذا هذه المبالغة في بناء المساجد؟ أليس النظام، هو "نظام علماني" كما يقول عن نفسه؟
والسر في ذلك هي رغبة النظام بتحويل المساجد إلى أمكنة وساحات لتدجين المؤمنين البسطاء، تحديدا يوم الجمعة، بحيث أنهم يسمعون خطبة موحدة كتبت تحت إشراف ورقابة ضباط الأمن !!
فالنظام -بالتحديد، قلب النظام الأمني- يقوم بعكس ما يجب على النظام العلماني أو أي نظام دولة القيام به، بما يخص مهمته تجاه المجتمع والوطن، أي تنظيم وترشيد حركة وتعبيرات القوى المجتمعية، فإذ به يقوم بتحريض هذه القوى ضد بعضها، ليَأمَن وحدتها ويتجنب تعاونها ضده، كل ذلك لصرف انتباه الجمهور والرأي العام عن الكارثة الوطنية العظمى المتمثلة في تدمير الاقتصاد ونهب الثروات وبيع البلاد.
دعوات الوحدة العربية انتهت إلى تقسيم سوريا والعراق
أما أخطر ممارسات السياسة العكسية كانت تلك التي مارسها كلٌ من نظامي الحزب الشمولي القومي -حزب البعث- في كل من سوريا والعراق، فقد كانت مبادئ البعث تدعو للوحدة والحرية والاشتراكية في حين كانت قيادتا الحزبين المتصارعين أكبر مثال على التطبيق العملي "لدعوتيهما الوحدويتين"، حيث كانت مجرد شبهة الانتماء لبعث العراق في سوريا تودي بالمتهم بها إلى الاعتقال لسنوات طويلة، كذلك حال من يتهم بالانتماء لبعث سوريا في العراق..
فالدعوة إلى الوحدة العربية في وسائل إعلام الحزبين الحاكمين تترجم عمليا على الأرض من قبل أجهزة مخابرات النظامين باعتقال واغتيال كوادر البعث الوحدوية المؤمنة بنظرية البعث، حقا، وتترجم إلى زرع عوامل التفرقة والشقاق بين السوريين خصوصا، تمييزا مناطقيا وطائفيا ومذهبيا، وقوميا، وقبليا وعشائريا، بل وحتى أسريا.. ولا شك أن التمييز عينه جرى في العراق إنما على نحو أقل حدة.
أما في خصوص مبدأ هدف البعث الثاني، الحرية، فحدّث ولا حرج، فلم يجر عبر التاريخ انتهاك لحرية الإنسان السوري والعراقي بقدر ما جرى في عهد النظامين البعثيين الأسدي والصدّامي، فقد كان يتحتم على أي مواطن سوري يرغب بإقامة حفل زفافه أن يحصل على موافقة فرع الأمن وأحيانا أكثر من فرع أمن، فقبل أو بعد أن يسعى طالب الزواج بجهاز العرس عليه أن يسعى للحصول على موافقة جهاز المخابرات!! ولقد وصل كتم الأنفاس في عهد الابن الإصلاحي المتحرر أن اعتقل مراهقا سوريا لأنه رأى مناما "سياسيا" لم يعجب أجهزة ذلك العهد.. وقس على ذلك مبدأ الاشتراكية البعثي، التي انقلبت اقتصادا زبائنيا نهبويا وتحولت معه الليبرالية الإصلاحية لاحقا إلى استئثار عائلتي مخلوف والأسد وبضع عائلات بمقدرات البلاد، بل استيلائها على نصف ثروات سوريا على الأقل.