icon
التغطية الحية

السياحة في عالم الكتب.. عن أستريد ليندجرين والقلم الذي أُحبّ

2022.09.10 | 13:41 دمشق

أدب طفل
+A
حجم الخط
-A

يمتلك عالَمُ الكتب سِحراً خاصاً، ومقدرةً على الإشعاع مهما تغيَّرَ الزمان، وتقدَّمت وسائل الكتابة الإلكترونية. كأنَّ في الكتب مجرَّةَ شموس ترسل أنوارها، فتأسر القارئ إذا كان صاحبَ ذائقة وعقلٍ مستنير، وقد صرَّحَ أحد عشاقِ الكتاب بأنه يهوى الكتب، لأنها تتيح له أن يحيا أكثرَ من حياة واحدة في عمره، وتسمح له أن يوجد في أزمنة وأمكنة متعددة في الوقت نفسه.

وهكذا.. فأنا -مع ضيق ذاتِ اليد- أزور البلدانَ البعيدة من خلالها، وأتفرَّج وأستمتع، وأعود بحصادٍ وافر من التجربة والثقافة وثراءِ الروح. ولأنَّ بيني وبين أدب الأطفال تجربةً طويلة أبحث بشغف عن كُتبهم وكُتَّابهم، ولا سيما أنَّ المبدعين والمبدعات قلةٌ نادرة في هذا المجال، ومن الأسماء التي تستهويني الكاتبة السويدية: أستريد ليندجرين (1907- 2002)، فقلبي يرقصُ فرَحاً حين تقع عينايَ على أحد مؤلفاتها.

لهذه المبدعة أكثر من تسعين كتاباً للصغار، وجائزةٌ عالمية باسمها، تُوصَفُ بأنها: (نوبل الأطفال).

عوَّدتنا أستريد ليندجرين على شخصياتها الطفولية الباهرة كشخصية بيبي ذاتِ الجوارب الطويلة حيث يجتمع فيها مع اليتم، والوحدة، والمشاكسة محبةُ الخير، والقدرةُ على تغيير الواقع من خلال امتلاكها قوةً فائقة، تبدو للكبار غيرَ معقولة، لكنها تلائم تماماً عوالمَ الصغار الذين يحلمون دائماً بما هو خارق، وغيرِ عادي. بيبي مثلاً تلتهمُ صحناً كبيراً من الحلوى بلقمة واحدة! وبإحدى ذراعيها تستطيعُ رفعَ حصان!

من آخر ما قرأتُه للكاتبة المذكورة رواية بعنوان: (الأخَوان) حيث الأخُ الصغير كارل مصابٌ بأمراض متعددة، وموشكٌ على الموت، لكنَّ أخاه جوناثان الذي يحبه حباً فائقاً، ويعطف عليه يموت قبله. موتُ جوناثان مؤثر للغاية، فقد حملَ على ظهره أخاه المريض كارل، وقفز به من طابق مرتفع حينما شبَّ حريقٌ في بيتهم! وهكذا.. نجا كارل من الموت، ومات جوناثان!

الموتى - كما تقول الرواية - يذهبون إلى عالم رائع يُسمَّى: (نانجيالا)، شبيه بالجنة عندنا، ومن خلال الحلم يلحق كارل بأخيه، وتجري هناك مغامرات مذهلة بطلاها الصغيران، يتمكنان من خلالها من القضاء على (تنغل)، وهو حاكمٌ ظالم نشرَ طغيانَهُ في (كارمانياكا) المجاورة لـ(نانجيالا).

كم يحتاج أطفالنا للإطلالة على هذه العوالم البيضاء التي ترسمها أستريد ليندجرين؟ وكم يحتاجون لشحن براءتهم من خلالها وتجديدِ نقائهم؟

اللافت أنَّ المغامرات عند أستريد ليندجرين وإنْ كانت ذاتَ طابع فانتازي، لكنها مشبعة بالدلالات العظيمة، الطيِّبة، الموظَّفة في خدمة الإنسان ووجوده، فنحن نرى تلك المغامرات تؤاخي بين الطبيعة، والحيوان، والإنسان. أقصد أنها تعيد جسرَ التواصل شبه المقطوع حالياً إلى فعاليته وألقه بين ركائز الوجود الثلاث التي أشرتُ إليها، كما أنها تملأ الطفلَ عقلاً، وقلباً بأنه قادر على الفعل، وعلى تغيير خريطة حياته البائسة، ولعل الأجملَ، والأبهى هو ثراءُ المغامرات بمعاني الحب، والخير، والسمو، والتضحية التي نحن بأمسِّ الحاجة إليها في عالمنا الحالي الطافح بالبطش، والمصالح، واللاإنسانية. من تجليات المعاني السابقة في رواية (الأخوان) ما يأتي:

  • شوقُ الموتى للأحياء، وزيارةُ أرواحهم لهم على شكل حمامة بيضاء تقف على شبَّاك البيت. كانت أم كارل تُغنّي هذه الأغنية لزوجها الذي مات في البحر:

       "إذا متُّ في البحر يا عزيزتي

       فلربما في يوم من الأيام

       جاءت حمامةٌ ناصعةُ البياض بلون الثلج

       من مكانٍ بعيد، بعيد

       وحطَّتْ على حافة النافذة

       عندها عجِّلي إلى النافذة يا عزيزتي

       فتلكم هي روحي

       تريد أن ترتاحَ قليلاً هناك

       بين ذراعيكِ".

أي أنَّ الحبَّ مساحةٌ خضراء لا يحتاج إليها الأحياءُ فقط، وإنما الموتى أيضاً.

  • الأسف حتى على المسيء في لحظة هلاكه، لأنه حينئذ يبدو مسكيناً، وينكشف ضعفه، فقد تمنى كارل أن ينقذ جوسي حينما رآه يغرق في النهر، مع أنَّ جوسي كان عميلاً يشتغل لصالح الطاغية (تنغل).
  • تضحية الحيوان من أجل الإنسان، فمن المدهش الذي لا ينساه قارئ الرواية أنَّ (غريم وفيالار) - وهما الجوادان اللذان يملكهما كارل وجوناثان - يبذلان جهداً خارقاً في إنقاذهما من مطاردة العدو، وحين بلوغهما برَّ الأمان يموتان تحت وطأة الإرهاق!
  • كراهية القتل، وكأنه أعظمُ إثم، من ذلك أنَّ جوناثان كان بطلاً عظيماً في الرواية، حتى إنه تمكَّنَ من إنقاذ (أورفار) المظلوم من سجن كاتلا الرهيب، وزلزلَ عرشَ (تنغل)، لكنه يرفضُ حملَ سيف، ولا يحبُّ القتال أبداً. وبذلك تغرينا الكاتبة بأن نواجه الشرَّ لا بالشر، وإنما بوسائل أخرى أرقى، أبهى، أسمى، تليقُ بكينونتنا البشرية.

أخيراً.. كم يحتاج أطفالنا للإطلالة على هذه العوالم البيضاء التي ترسمها أستريد ليندجرين؟ وكم يحتاجون لشحن براءتهم من خلالها، وتجديدِ نقائهم؟ خاصة أننا نشهد اليوم تشوُّهاً متسارعاً للطفولة بأفلام العنف والألعاب الإلكترونية التي تُغري بالقتل وسفكِ الدماء. كما أنَّ واقع العالَم من جهة والواقعَ العربي بصورة خاصة أصبحا متخمَيْنِ بالحروب والنزاعات، وبكل ما يعادي الطِّيبة والمحبة وصفاءَ الروح! حتى نحن الكبار تتيح لنا عوالمُ ليندجرين النقية فرصةً ذهبيةً رائعة لاستنشاق عطورِ الطفولة، والاقترابِ من شفافيتها وعذوبتها بعد أن أفلتت منا، وسيطرتْ علينا النزعةُ المادية ولغةُ الأرقام حتى كأننا فقدنا بشريَّتَنا وصرنا مجرَّدَ آلاتٍ حاسبة تتحكَّم فيها الأزرار.