يقول "شيشرون"، خطيب الرومان الأشهر ومعاصر "يوليوس قيصر" في القرن الأول قبل الميلاد: "من لا يعرف التاريخ يبقَ طفلاً أبد الدهر".
اليوم، ونتيجة الانتكاسات المتتالية التي تمرّ بها المنطقة العربية عموماً، والسورية على وجه الخصوص؛ بتنا نسمع ونقرأ كثيراً هذه العبارة: "إنها المرحلة الأسوأ في التاريخ"!
من بين المرددين لهذه العبارة كتّاب ومفكرون ومحللون وأشخاص عاديون، منهم من درس التاريخ ومنهم من قرأه ومنهم من اختصّ به، وكذلك منهم من لم يكلّف نفسه عناء الاطّلاع أو حتى السؤال؛ فتشكّلت بذلك ذهنيّة يمثلها طيف واسع من الأشخاص؛ ذهنية هي أقرب ما تكون إلى الاستسلام والتشاؤم والقبول بنتائج جاهزة غالباً ما تكون من صُنْع أطراف لا علاقة لها بمجتمعاتنا وأزماتنا وتاريخنا.
ولنتساءل الآن: هل نحن نمرّ فعلاً بأسوأ مراحل تاريخنا؟
الإجابة عن هذا التساؤل تدفعنا حتماً إلى استعراض أمثلة لأحداث كارثية اشتملت عليها مراحل تاريخ المنطقة، ونقصد بها سوريا على وجه الخصوص والمشرق العربي عموماً، لنقارنها بما تتعرض له اليوم، والوصول إلى النتيجة الخاضعة لحتمية مسار التاريخ وتحولاته.
الأمثلة التي سنطرحها ترتبط بفترات تاريخية متمايزة زمنياً وسياسياً وعسكرياً، أولها "الدولة العباسية" وما تخلل بعض مراحلها من انحدار سياسي واجتماعي وأخلاقي وديني، ثم الانتقال إلى الحملات "الصليبية" وهجمات "المغول" وما تمخّض عنها من كوارث مختلفة عانت منها المنطقة فترات طويلة من الزمن. بعدها سنسلّط الضوء على أمثلة مستمدة من تاريخنا الحديث والمعاصر.
الدولة العباسية: خمسة قرون من الكوارث!
معظمنا يعلم كيف انتزع العباسيون السلطة من يد الأمويين بعد معركة "الزاب" التي اندلعت بين الفريقين شمالي العراق عام 132 للهجرة (750م) حصلت تلك المعركة لتنهي 91 عاماً من حكم بني أمية الذي بدأه معاوية بن أبي سفيان بعد أن اجتمع المسلمون على بيعته في "عام الجماعة"، وبلغت الدولة العربية خلال تلك العقود التسعة أقصى اتساع لها على مرّ العصور لتمتد من بلاد السند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن المحيط الهندي وبلاد السودان جنوباً إلى فرنسا شمالاً.
وبمعزل عن تفاصيل تلك المعركة الدموية التي استمرت 9 أيام قضى فيها الآلاف من الفريقين بين قتيل وغريق ومطارد، أعقب انتصار العباسيين في الزاب سلسلة من التصفيات والانتقامات كان أولها ملاحقتهم لـ"مروان بن محمد"، آخر خلفاء بني أمية وقائدهم في المعركة، إلى صعيد مصر وقتله، ثم القضاء على أفراد البيت الأموي، الصغير والكبير، على يد أول "خليفة" عباسي "عبد الله بن علي" الذي أطلق على نفسه لقب "السفاح"[1] لكثرة ما سفك من دماء الأمويين بعد أن أعطاهم الأمان ودعا فريقاً كبيراً منهم إلى قصره ليقتلهم جميعاً؛ ولم ينجُ منهم سوى "عبد الرحمن بن معاوية- الداخل- صقر قريش" مؤسس دولة الأمويين في الأندلس.
لم يتوقف العباسيون عن تصفية حلفائهم وأقاربهم أيضاً، فما إن استتبت لهم أمور الدولة حتى أخذوا بالقضاء على شركاء الأمس الذين قامت على أكتافهم الدولة العباسية، كأبي سلمة الخلال على يد السفاح، وأبي مسلم الخراساني وعبد الله بن علي عمّ الخليفة العباسي وقائد الجيش المنتصر في الزاب وقاتل الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد على يد أبي جعفر المنصور، و"البرامكة" على يد هارون الرشيد، والخليفة "الأمين" على يد أخيه الأصغر "المأمون" للاستئثار بالخلافة.
"عصر القوة" بين بني أمية وبني العباس
وعلى الرغم من ذلك، استطاع أولئك الخلفاء، الذين يمثلون عصر القوة في الدولة العباسية مع فترة حكم "المعتصم" وبدايات عصر "المتوكّل"، الحفاظ نسبياً على مكانة الدولة العباسية سياسياً في ذلك الوقت، وازدهرت أيضاً الفنون العمرانية والحركة الفكرية، فشيّدت مدن بغداد والرقة وسامراء، بالإضافة إلى إنشاء مكتبة "بيت الحكمة" درّة المراكز الثقافية في ذلك الزمان.
لكن، إذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين العصر الأول للعباسيين، وهو عصر القوة كما ذكرنا، مع النصف الأخير من حكم الأمويين، سنجد أن الأمويين استطاعوا خلال فترة قياسية (لا سيما في عصر "الوليد بن عبد الملك" الذي شهد معظم الفتوحات في الشرق والغرب) فتح وإدارة دولة مترامية الأطراف، كما حددناها سالفاً، والحفاظ عليها طيلة فترة حكم الخلفاء الثمانية الذين أعقبوا الوليد، ومدة حكمهم جميعاً 43 عاماً، ونصفهم مصنفون خلفاء ضعاف!
أما في عصر قوة العباسيين، منذ تولي المنصور الخلافة وصولاً إلى نهاية عصر المعتصم، 754- 843م، والذي امتد 91 سنة (بقدر المرحلة الأموية كاملة)، فقد خسرت فيه الدولة أكثر من ثلثي أراضيها، كان أولها وأهمها على الإطلاق دولة الأندلس التي بقيت تابعة للأمويين، تبعتها دولة "الاغالبة" في شمال إفريقيا منذ أيام هارون الرشيد، وكذلك دولة "الأدارسة" في المغرب. ناهيك عن الجبهة الشرقية والبيزنطية التي راحت تتهاوى شيئاً فشيئاً على يد قادة وعمّال الخلفاء فيها، ونشأت فيها العديد من الدول كالدولة "الطاهرية" وغيرها. إضافة إلى ذلك شهدت الجبهة الداخلية العديد من الحركات والثورات التي أقضت مضاجع الخلفاء والرعية، كثورات "الزنج" و"الزطّ" و"المازيار" و"بابك الخرمي"..
كل تلك الأحداث والنكبات حصلت خلال ما أُطلق عليه (عصر القوة)، أما إذا ما تناولنا عصر الضعف والانحطاط، الذي هيمن على القرون الأربعة اللاحقة من حكم العباسيين، فنحن بحاجة لقراءة عشرات بل مئات المجلدات التي تناولت الانتكاسات والفجائع المتواصلة التي شهدها تاريخ المنطقة؛ ولنمرّ بشكل مقتضب على أهم الأحداث وأخطرها وأشدّها وقعاً:
- هيمنة العناصر الأجنبية (العجم) على مفاصل الدولة العباسية، ونشوب القلاقل والاضطرابات والفتن التي بدأت بمقتل الأمين على يد أخيه المأمون، ثم استمرارها بعد المعتصم لتنال من الخليفة المتوكّل الذي تم قتله على يد قادته ووزرائه من الترك بتحريض من ابنه "المنتصر".
- أدى استبداد تلك العناصر بالحكم إلى إثارة حفيظة العرب عليهم، واشتعال نار الحقد والعداوة في نفوسهم؛ وهو ما أجَّج الصراع بينهم. فكثرت الفتن والقلاقل في المجتمع، وظهر العديد من الفرق والمذاهب التي ساهمت في بثِّ الفرقة والانقسام بين أطياف المجتمع، وفي تفتيت وحدتهم وتعريضها للخطر.
- الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي طغى عليها الترف والمجون والفساد والفقر والجهل، وما صاحب ذلك من دجل وخرافة وشعوذة وسحر وطلاسم وتنجيم.
- بروز "القرامطة" كثورة على ذلك الواقع المتردّي في البداية، ثم تحوّلها إلى قوة اجتماعية واقتصادية وعسكرية ودينية، واستيلائها على أجزاء من العراق وتشكيل دولة لأتباعها في الإحساء والبحرين، وارتكابهم المذابح والفظائع بحق السكان في الحجاز والعراق واليمن ومصر والشام، وكذلك الحجاج داخل الحرم المكّي واقتلاع الحجر الأسود ونقله إلى مناطقهم ليبقى مرمياً هناك لأكثر من عشرين عاماً.
- ضياع هيبة الخلفاء والعرب وحضارة المسلمين، وتشظّي أراضي الدولة والسيطرة عليها من قبل الفرس والروم، واندلاع الحروب بين تلك الفئات، وإزهاق مئات الآلاف من الأرواح بسبب تلك الحروب والفتن؛ ولم يبق للخليفة سوى مقصورته داخل القصر ببغداد، وأصبحت سلطته اسمية فقط.. دون سلطة فعلية تُذكر فوق شبر واحد من أراضي الدولة.
- تقاسَم القادة والجند المدن الكبرى والصغرى، وصارت كل أسرة تعلن استقلالها فوق بقعة لا تتجاوز أحياناً حدود قلعة أو سور مدينة، وسكان لا يتجاوز تعدادهم بضع مئات. في الشام والعراق على وجه الخصوص.
- تحوّل المذاهب والتيارات الفكرية والدينية إلى صراع مذهبي وديني مسلّح؛ وغالباً ما شُكّلت تحالفات مع أطراف خارجية غازية للقضاء على أصحاب التيارات والمذاهب المناوئة.
كل ذلك، بالإضافة إلى العديد من المصائب والكوارث، كان له الأثر البالغ والمباشر في تردّي الأوضاع كافة على المشرق العربي وتعرّضه للانتكاسات والأزمات المتتالية خلال العصور اللاحقة وحتى يومنا هذا.
الصليبيون والمغول
كانت حملات الفرنجة (الحروب الصليبية) نتيجة ناجزة وحتمية للنكبات التي تعرض لها المشرق العربي خلال المرحلة التي تشكّلت فيها، والتي مررنا عليها سالفاً، كما أنها لم تكن الوحيدة من بين المصائب التي طالت مشرقنا العربي، إذ تزامنت مع هجمات خارجية أخرى من جهة الشرق تمثّلت بالاجتياح المغولي..
المغول: بالرغم من فظاعة ووحشية الاجتياح، الذي لم يسلم منه البشر والحجر والبهائم ودور الكتب، إلا أن المغول اعتمدوا أسلوب "الغزو" والنهب، شأنهم شأن أغلب قبائل البوادي والصحارى وقتذاك، قبل استقرارهم لاحقاً وإقامة الدولة المغولية التي سيطرت على بقعة شاسعة من وسط وشرق آسيا.
ومع ذلك، فإن الغزوات التي طالت أكبر مدن الشرق العربي وأهمها، على يد كلّ من "هولاكو" و"تيمورلنك"، والتي لم تستمر لفترات زمنية طويلة، استطاعت أن تحتلّ حيّزاً واسعاً وأليماً من صفحات تاريخ المشرق نتيجة المشاهد الكارثية التي خلفتها، لا سيما المجازر البشرية التي تعرضت لها مدينة بغداد، التي قتل فيها هولاكو آخر خلفاء العباسيين، منهياً بذلك الخلافة 1258م، وتدميره لمكتبة بيت الحكمة وحرقها ورمي الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة في نهر دجلة؛ وفي طريقه إلى حلب ارتكب هولاكو في مدينتي منبج والمعرة مقتلتين عظيمتين، ولدى وصوله حلب، 1259م، تم قتل أكثر مما قتل ببغداد.
مشاهد الرعب.. وصف مجازر مدن الشام
وفي نهاية القرن الرابع عشر للميلاد، عاد "تيمورلنك" ليدمر حلب ويقتل الآلاف من سكانها مرة أخرى قبل أن ينتقل لدمشق. ويصف لنا الكاتب "كامل الحلبي"[2] مشهداً مرعباً، فيقول: "دخل جيش تيمورلنك حلب؛ فإذا هم ينهبون الأموال ويحرقون المباني ويخربونها، ويقتلون الكبار والصغار، ويفتضّون الأبكار، ويأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيُلقونه من يدها ويفسقون بها، فلجأ النساء عند ذلك إلى الجامع الكبير ظنًا منهنّ أن هذا يقيهنّ من أيدي الكفرة، وصارت المرأة تُطلي وجهها بطين أو بشيء يشوّه محاسنها، فيأتي ذلك العلج إليها ويغسل وجهها ويتناولها ويتمسح بالأوراق الشريفة، ودام هذا الحال من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء".
في دمشق، وبعد حصار أهلها وسحب أموالهم، "أمر تيمورلنك أمراءه فدخلوا دمشق ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدور وغيرها وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوما عاصف الريح، فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها ثم رحل تيمور عنها بعد أن أقام ثمانين يوما وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالا بالية ولم يبق بها الا الأطفال[3]".
الصليبيون: أما الحملات الصليبية، فقد كانت غاياتها توسّعية دينية بالدرجة الأولى، تجسّدت في السيطرة والاستيلاء على المشرق العربي بحجّة تخليص بيت المقدس، موطن الديانة المسيحية، من المسلمين الذين اعتبروهم غزاة ومحتلين لذلك الموطن خلال الفتوحات التي انتزعته من الإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع الميلادي. ولن ندخل في ذكر الأسباب والدوافع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المباشرة وغير المباشرة لتلك الحملات وإنما سنعرج على بعض ما مارسته من أهوال وانتهاكات بحقّ المنطقة وأبنائها ضمن سياق بحثنا عن جواب التساؤل المطروح في المقدمة.
اشتملت الحملات الصليبية على ثمان حملات رئيسة، لم تتجه جميعها صوب المشرق العربي أو بيت المقدس، لأسباب سياسية ولوجستية؛ كما أن الحملات لم تقف بعد الحملة الثامنة، لكنها كانت صغيرة ولم تكن ذات طابع سياسي مباشر كالحملات الرئيسة التي سبقتها.
بدأت تلك الحملات مع انطلاقة الأولى عام 1096م، واستمرت لغاية الحملة الثامنة 1270م، شهدت خلالها المنطقة العربية العديد من النكبات والكوارث، ولعل أشدّها كان احتلال بيت المقدس خلال الحملة الأولى عام 1099م وإعادة احتلالها خلال الحملة السادسة في العام 1228م بعد توقيع معاهدة مع المسلمين تخلّوا بموجبها عن بيت المقدس لمدة 10 سنوات.
وسنسلّط الضوء على تفاصيل محددة وردت في سياق الحملات التي استهدفت المشرق العربي، وخاصة الأولى والثالثة؛ وما تمخّض عنها من مجازر ودمار.
الحملة الأولى ومجزرة بيت المقدس
وصل إلى بيت المقدس أربعين ألف مقاتل، لم يستطع جيش الفاطميين فك حصارهم للمدينة الذي استمر شهرًا كاملا، ودخلوها في النهاية في 15 يوليو سنة 1099م، وأقاموا فيها مذبحة قضوا على سكانها جميعًا رجالا ونساءً وأطفالا وكهولا، واستباحوا مدينة القدس أسبوعًا يقتلون ويدمرون حتى قتلوا في ساحة الأقصى فقط سبعين ألفًا من المسلمين[4].
ويرجح بعض المؤرخين أن المجزرة استمرت لعشرة أيام وأودت بحياة نحو مئة ألف مقدسي، أحرقت الجثث وقطعت الأصابع وشقت البطون بحثًا عن الذهب والجواهر، وحول الأقصى إلى اصطبل للخيول[5].
أما "ول ديورانت" فينقل عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: "إنَّ النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقها بالعمد"[6].
ويذكر "ستيفن رنسيمان" في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" ما حدث في القدس يوم دخلها الصليبيون، فيقول: "تركت مذبحة بيت المقدس أثراً عميقاً في جميع العالم، وليس معروفاً بالضبط عدد ضحاياها، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود، بل إن كثيراً من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث[7]".
ويذكر قائد صليبي ممن شهد هذه المذابح وهو "ريموند أوف أجيل"، أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه[8].
معرة النعمان وأكل لحوم البشر
ريموند الذي ذكرناه مؤخراً هو ذاته القائد الصليبي الذي احتل "مَعَرَّة النعمان" قبيل الوصول إلى بيت المقدس، وقتل بها قرابة مئة ألفٍ، معظمهم كانوا يختبئون في الجوامع والسراديب وأشعل النار فيها[9]. وكانت المعرة من أعظم مدن الشام بعدد السكان، بعد أن فر إليها الناس بعد سقوط أنطاكية وغيرها بيد الصليبيين.
وما ورد عن مذبحة المعرة 1098م، قول المؤرخ "رودلف كاين": "في المعرة قواتنا سلقت الكفار أحياءً في قدور الطهي؛ وخوزقوا الأطفال في أسياخ وشووهم على النار وأكلوهم"[10].
أما المؤرخ "فولتشر أوف تشارترز" الذي شارك في تلك الحملة، فقد ترك وصفًا لا حدود لبشاعته وهمجيته: "يمكنني القول بقشعريرة إن الكثير من أناسنا يقودهم جوع مجنون، انتزعوا قطع اللحم من أرداف القتلى العرب وقاموا بشويها، ولم ينتظروا إلى أن تستوي بشكل كاف، والتهموها بطريقة متوحشة"[11].
ويجب أن نشير هنا بأن تلك الهمجية قد ارتكبت بحق سكان المعرة بعد أن تفاوض أحد قادة الحملة مع أهلها ومنحهم الأمان مقابل الاستسلام!
طرابلس: كذلك فعل الصليبيين مع أهالي طرابلس بعد انسحاب الحامية الفاطمية وتسليم المدينة للصليبيين 1109م، فقتل الكثير من أهل المدينة، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات[12].
الحملة الثالثة ومذبحة عكا
أما خلال الحملة الصليبية الثالثة، فقد قام قائدها "ريتشارد قلب الأسد" بذبح أسرى المسلمين في عكا، وذلك بعد تمكن الصليبيين من دخول المدينة، بعد هدنة عُقدت بين الجانبين الإسلامي والصليبي، وكان سبب موافقة صلاح الدين على عقد هذه الهدنة عدم تمكنه من الوصول إلى المسلمين الذين داخل عكا، وإمدادهم بالسلاح والمؤن، وكان من ضمن شروط هذه الهدنة السماح للمسلمين الذين في عكا بالخروج بأموالهم وأنفسهم، إلا أن ريتشارد قلب الأسد نقض العهد، وغدر بالمسلمين، وقبض عليهم، واحتجزهم لديه، وكان عددهم يقارب الثلاثة آلاف مسلم، بعدها توقف صلاح الدين عن تنفيذ بقية شروط الهدنة، حتى يتم الإفراج عن المسلمين المحتجزين، وطالت فترة المفاوضات بين الطرفين حتى انتهت فترة الهدنة التي حُددت بين الجانبين؛ ما جعل ريتشارد يدفع بالأسرى إلى خارج أسوار عكا، ويأمر بضرب أعناقهم جميعاً، وينقض جميع شروط الهدنة[13].
وعلى الرغم من تلك الجريمة الشنيعة التي ارتكبها ريتشارد، إلا أن صلاح الدين وقّع معه "صلح الرملة" الذي تنازل من خلاله عن جميع مدن الساحل الشامي لريتشارد، ما مهّد للصليبيين لاحقاً استعادة بيت المقدس عقب وفاة صلاح الدين. وما يزال ذلك الصلح يشهد مشاحنات وتجاذبات بين فرق المؤرخين حتى اليوم.
في كوارث التاريخ الحديث
عاش المشرق العربي معظم تاريخه الحديث في ظل الدولة العثمانية التي أعقبت حكم المماليك منذ العام 1516م. وككل الدول التي تعاقبت على حكمه، مرّت الدولة العثمانية بالأطوار التي تحدّث عنها "اشبنغلر" في نظريته حول تفسير التاريخ، حيث قَرَن الأطوار التاريخية التي تمرّ بها الدول والأمم بالمراحل العمرية التي يمر بها الإنسان، الولادة والشباب والشيخوخة والموت، ويُقصد بها مراحل: التأسيس والقوة والضعف والانهيار.
وتأثر المشرق العربي بشكل مباشر بالتغيّرات والتحولات التي كانت تطرأ على الدولة العثمانية نتيجة القرب الجغرافي من مركز القرار في "الأستانة" والموقع الاستراتيجي الذي تتميز به دول الشرق عموماً، لا سيما بلاد الشام. لذا، فقد حرص الباب العالي على الإشراف المباشر في إدارة ولاياتها ومتصرفياتها وسناجقها، وخاصة بعد المحاولات التي قام بها بعض حكام الأقاليم للانفصال عن الدولة العثمانية، كمحاولة "جان بردي الغزالي" و"فخر الدين المعني" و"علي بك" و"جانبلاط" و"ظاهر العمر" و"محمد علي" و"الحركة الوهابية" وغيرهم.
دخلت الشام مرحلة جديدة عقب حملة نابليون على مصر أواخر القرن الثامن عشر ومحاولته السيطرة على الشام، لتصبح بعد الحملة تحت سيطرة "محمد علي باشا" بموجب معاهد "كوتاهية" التي منحه السلطان العثماني من خلالها ولاية الشام.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، تعرضت سوريا إلى عدة أحداث، أبرزها إثارة الفتن الطائفية في دمشق، وبعض الثورات في جبل حوران كثورة 1851م، وثورات عشائر البدو في قرى ونواحي دير الزور، وكان للقناصل الغربيين دور كبير في إثارتها، ولا أدل على ذلك من الدور الذي أثارا فيه سفيرا بريطانيا وفرنسا الفتنة بين الدروز والموارنة في لبنان، والتي امتد لهيبها الطائفي والمذهبي إلى دمشق[14].
تلك الأحداث مجتمعة، لا سيما الأخيرة منها، والتي أطلق عليها مسمى (المسألة الشرقية)، انعكست سلباً على النسيج العام للمجتمع السوري والمشرق العربي عموماً، وساهمت بتخلّفه وجموده وتأطيره، وجعلته عرضة دائمة للتوترات والقلاقل اللاحقة.
ختاماً..
بعد تلك الوقائع التاريخية، وهي جزء بسيط جداً قياساً بتاريخ المنطقة الموغل في القدم والمليء بالأحداث المأساوية والمصيرية، أما زلنا نرى بأننا نمر بأسوأ مراحلنا التاريخية؟
ما نمرّ به اليوم هو حدث عابر ضمن حركة التاريخ الطبيعية؛ تلك الحركة التي تدور في فلكها جميع الأمم والشعوب الحيّة على مرّ عصورها..
ولنتساءل:
- هل حرب المئة عام دمّرت الإنكليز والفرنسيين اليوم؟
- هل الثورة الفرنسية نجحت بدون دماء؟ أولم تُنتج تلك الثورة القانون الأوسع انتشاراً في العالم؟
- ألم تمهّد الحرب الأهلية الأميركية لإنهاء عصر العبودية ولصناعة أقوى دولة في العالم؟
- هل الحرب العالمية الثانية دمّرت الألمان واليابانيين؟
قبل كل شيء، يتوجّب علينا –نحن السوريين- معرفة الفارق بين ذهنية الهزيمة وذهنية التعلّم.. ذهنية الهدم وذهنية البناء. ثم الإجابة عن السؤال المفصلي: كيف نبدأ بصناعة التاريخ؟