في خريف عام 2013، سأسمع من موظف غربيّ، ينتظر التقاعد من وظيفته بعد أسبوعين، ما لم أعتد سماعَه من أمثاله خلال الاحتكاكات القليلة التي تصادف وجمعتني ببعضهم. قال لي الرجل "أنتم (السوريون) متروكون، ونحن إنما نفعل ما نفعله الآن لأنه من غير المناسب أن نبدو وكأننا لا نقوم بشيء". كان واضحاً أن كلام الرجل تعميمي، ولا يخص بلده فقط. فنحن متروكون من كل الفاعلين الدوليين، وتابع يشرح لي المعلومة المقتضبة التي قدمها، بأن السوريين مُتخلى عنهم من المجتمع الدولي، وأن ما نراه الآن (تلك الفترة) من مواقف وتحركات دولية واجتماعات، ومن ضمنها مواقف وتحركات بلاده، هو من باب إظهار الاهتمام وليس اهتماماً فعلياً على الإطلاق، وواقع الأمر أننا متروكون تماماً. كان ما قدّمه الرجل في لحظة صدق غير معتادة لدى السياسيين والديبلوماسيين صادماً لي، خصوصاً أن السوريين وأنا منهم، كانوا ما يزالون في تلك الفترة، يعيشون حلم الانتصار وإزالة نظام الأسد، ذاك الحلم الذي سيبهت سنة بعد سنة. لم يكن الرجل مسؤولاً كبيراً حتى آخذ كلامه كواقع مؤكد، لكن الأرجح أنني لم أكن أريد، ولست قابلا لتصديق تلك الحقيقة يومئذ.
أصدقاء الأسد كانوا أكثر مبدئية مع حليفهم القاتل، ولم يكن السلوك الإجرامي لهؤلاء في سوريا، سوى بموافقة، أو على الأقل تغاضي وقبول "أصدقاء الشعب السوري" بالأمر الواقع
على نحو مأساوي وبثمن باهظ الدم، بدأت تتكشف تلك الحقيقة يوماً بعد يوم. فبينما تخلى من سمَّوا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري عن أصدقائهم المفترضين (نحن)، وتركوهم لمصيرهم في الموت والاعتقال والنزوح والهجرة، فإن أصدقاء الأسد كانوا أكثر مبدئية مع حليفهم القاتل، ولم يكن السلوك الإجرامي لهؤلاء في سوريا، سوى بموافقة، أو على الأقل تغاضي وقبول "أصدقاء الشعب السوري" بالأمر الواقع، وتعاملهم مع مجمل الحدث السوري، بحسب ما تفرضه أو تقتضيه سيناريوهات الأرض. لا بأس أن يكون الجنوب تحت سيطرة معارضي الأسد، ثم بعد سنوات لا بأس أن يستعيد الأسد سيطرته عليه، وكذلك وسط سوريا وشمالها. في كل حال، كان الأمر متروكاً لوقائع الأرض وما يرتئيه (المتعهد) الروسي، إذ كان يطلب أولئك الأصدقاء على الدوام من ممثلي المعارضة السورية، وما زالوا، التفاهم مع الجانب الروسي، بدون أية أهداف للأصدقاء العتاة، سوى انغماس الروس أكثر في المسألة السورية، مع علمهم بكل الجرائم والمجازر التي كان يرتكبها الجيش الروسي، وبخاصة طيرانه، في كامل الجغرافيا السورية. لمَ لا؟ فليس لدى الأصدقاء ما يدفعونه من مصالحهم، والأمر لا يعدو سوى موت مزيد من السوريين فحسب، وهو موت مألوف. حتى إنه، شيئاً فشيئاً، لم يعد خبراً في وسائل الإعلام.
لم يسقط الأسد، حسناَ إذاً تعالوا لنعيد ترتيب التعايش مع وجوده، شرط أن يتغير، أو على الأقل أن يبدو وكأنه تغيّر. هذا هو لسان حال الفاعلين الدوليين اليوم، والأسد الذي دهن الدبابات باللون الأزرق نهاية عام 2011 ليقول للجنة العربية إنها تابعة للشرطة، ولم تسجل اللجنة عليه تلك الملاحظة، سيّد من يجيد تلك اللعبة، وليس لديه أي مانع من التغيّر على هذا النحو الذي طالما اعتاده. تعوَّد نظام الأسد منذ نصف قرن التأقلم مع أية ظروف، ولا هدف لديه له أولوية على هدف البقاء في السلطة. في فترة التحالف مع المعسكر الاشتراكي كان لديه الشعار الشهير "لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية"، حينذاك كان هدفه الوطني الأول المعلن هو محاربة العدو الصهيوني. في فترة لاحقة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، انعطف الأسد بأهدافه السياسية، ليتجاوب مع متطلبات المرحلة الجديدة، وبعد أن كان التوازن الاستراتيجي مع العدو شعاراً لمرحلة طويلة، سيتحول الأسد إلى خيار السلام الاستراتيجي، وبعدها، وعلى الصعيد الدولي والإقليمي ذهب إلى حدّ إرسال جيشه ليكون ضمن التحالف الدولي أثناء حرب تحرير الكويت. تحوّرات نظام الأسد، وقدرته على التكيّف لا تضاهيها أية حالة براغماتية لدى أي نظام آخر. إنه يمتلك أعلى جاهزية لأية حالة انتعال دولي أو حتى إقليمي، ومستعد لدفع أية أثمان مقابل بقائه في السلطة. ولن يخيّبه المجتمع الدولي القابل بدوره لدعم أي ديكتاتور مطيع.
كل الأجسام السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، والأشخاص المنضوون ضمنها بطبيعة الحال، يعرفون اليوم هذه الحقيقة، ومع ذلك نراهم مستمرين في لعب أدوارهم
اليوم يحاول بعضهم إنكار الضوء الأخضر الأميركي والسماح بالتطبيع مع الأسد، بالتوازي مع التصريحات الأميركية المألوفة المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية. هذا الإنكار هدفه الأول عدم إظهار الحكومات العربية وحكومات الإقليم، وتالياً القوى الفاعلة، كحالة ذيلية تأتمر بأمر المايسترو الأميركي، متناسين تريث حتى أنظمة الثورة المضادة، إعلانها القبول بالأسد قبل سنوات قليلة مضت. ستبدو غايةً في الكوميديا أن نعقد المقارنات بين تصريحات السنوات الأولى للمسؤولين السياسيين، العرب على وجه الخصوص، وكيف كانت مواقفهم من نظام الأسد وجرائمه، وبين تصريحاتهم التي تحولت اليوم مهادنة معه بل وتطبيعية. إنها حالة خالصة من الكاريكاتير.
سورياً، تبدو المفارقة أن كل الأجسام السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، والأشخاص المنضوون ضمنها بطبيعة الحال، يعرفون اليوم هذه الحقيقة، ومع ذلك نراهم مستمرين في لعب أدوارهم، مع تجاهل تامّ لحقيقة عدم جدوى تلك الأدوار، بل على العكس، فهي تستكمل الديكورات اللازمة لإنهاء ترتيبات تعويم الأسد، وإعادة شرعنة وجود نظامه، وليس غائباً عن أي أحد، أن أياً من تلك الجهات لم تعد (في حال كانت سابقاً) تمتلك استقلالها أو تمتلك قرارها، فالمستقلون وأصحاب الرؤيا الوطنية السورية انزووا في بيوتهم تباعاً منذ سنوات.
في كل مرّة اعتقد السوريون أن نظام الأسد قد يسقط، كان هناك قادرٌ أرضي، هو بحصةٌ مجهولة معلومة، يسند جرَّة نظام الأسد قبل أن تنكسر، شخصياً أعتقد أنه في تل أبيب. حدث هذا عام 2006 بعد ارتكابه جريمة اغتيال رفيق الحريري، وكان على وشك السقوط، بحسب تصريحات العديد من الساسة الغربيين، وكان المعارضون السوريون لا ينقطعون عن شاشات الفضائيات، ليغيبوا فجأة وعلى نحو مفاجئ، ويعود النظام إلى حظيرة القبول الدولي رغم جريمته. اليوم يتكرر الأمر ذاته وعلى نحو تدريجي هذه المرّة. هل من المناسب الاتكاء على عنوان كتاب العزيز زياد ماجد للقول إنها ثورة يتيمة؟ أم على لافتة رفعت خريف عام 2011 في كفرنبل كُتب عليها "يسقط النظام والمعارضة. تسقط الأمة العربية والإسلامية. يسقط مجلس الأمن. يسقط العالم. يسقط كل شيء"؟ خسر السوريون مئات آلاف الضحايا من أجل الحرية والخلاص من مافيا الأسد، وعليهم اليوم القبول عنوةً، بنهايةٍ على هذا النحو! يبدو لي أننا "أيتام" في مرحلة كل ما فيها "ساقط". هل أنا متشائم؟ أجل، مثلكم جميعاً.