على وقع التحركات الجارية والتي يقودها رؤساء الحكومات السابقون ومفتي الجمهورية لمنع إحداث فراغ في المشهد السني عقب انسحاب سعد الحريري، عاد سعد الحريري إلى بيروت، فجر الأحد عشيّة ذكرى استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري. فضّل الحريري عدم عقد لقاءات سياسية خلال فترة وجوده. فعودته مرتبطة بإحياء ذكرى اغتيال والده. وهي ذات طابع "وجداني ووجودي" في هذه المرحلة، وفق ما قال. لكنه ترأس اجتماعاً لكتلة المستقبل النيابية، كرر خلاله موقفه السابق الذي أعلنه في زيارته الأخيرة إلى لبنان بالعزوف عن الترشح للانتخابات النيابية، وتعليق العمل السياسي.
وتحلّ ذكرى اغتيال رفيق الحريري هذا العام، بعد إعلان سعد الحريري عزوفه عن خوض الانتخابات النيابية وتعليق عمله السياسي. وفي المقابل فإن نجله الأكبر بهاء أعلن للسنة في لبنان عن تصدره لزعامة الحريرية السياسية ورفض اغتيالها في وجودها وحضورها الوطني حسب ما يزعم، لكنه حتى الآن لا يبدو صاحب حركة جدية أو قادرة على التغيير أو التأثير ولم يحظ حتى اللحظة بأي تعاطف سني نتيجة رفض الوجدان السني لانقضاض بهاء على أخيه في لحظة ضعفه وهوانه، بل هو يتصرف وكأن ميدانه السياسي تركة أو ميراث يطالب بحقه فيه، بلا أي فاعلية سياسية أو حضور على الأرض في الحدّ الأدنى.
لكن الحقيقة اليوم أن تيار المستقبل شكّل منذ انتخابات العام 2005، رافعة سنيَّة ومروحة كبيرة قدمت للحريري الابن ما لم تقدمه لأبيه في عز حضوره السياسي المحلي والإقليمي، حيث تحوّل تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري إلى التيار الأساس الممثل للسُنَّة، من أقاصي عكار إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية في مثلث العرقوب السني، مرورًا بالمدن الساحلية في طرابلس وبيروت وصيدا. وقدّ ترسخ هذا الواقع في انتخابات العام 2009 بوضوح تام بخسارة كل البيوت السياسية في انتخابات حصل فيها الحريري وحلفاؤه على أغلبية مطلقة لكنها عجزت عن الحكم في ظل تصدي حزب الله لكل محاولات حكم الأغلبية.
لكن وبعد أزمة الحريري مع القيادة السعودية الجديدة التي أتت عقب موت الملك عبدالله والذي شكل للحريرية سندا عربيا ومجيئ الملك سلمان ومعه نجله محمد ولياً للعهد باتت المشروعية الحريرية تعيش أفولاً كبيراً ترجمت عبر استقالته مرغماً من الرياض حيث أخضع الرجل لسجن إجباري في اليتز كارلتون مع الأمراء السعوديين ولم يكن ليعود لبيروت لولا التدخلات الفرنسية التركية والمصرية والضغوطات التي تعرض لها ترامب من إدارته، وعقب ذلك بات واضحا لدى سُنَّة لبنان أنّ أمورا ما لا تسير في الاتجاه الصحيح ولا الصحي مع الحريري نفسه، إلاّ أنّ غياب البديل أو البدائل دفعهم إلى التمسك بسعدٍ كزعيم أول للطائفة.
اليوم تتعرض السنية اللبنانية لامتحانها الصعب ويترسخ ذلك في فقدان البوصلة السياسية أو المشروع الوطني، فيما يسعي خصوم السنية الشيعة والمسيحيون إلى تحقيق اختراقات متعددة داخل بيئتهم
واليوم تتعرض السنية اللبنانية لامتحانها الصعب ويترسخ ذلك في فقدان البوصلة السياسية أو المشروع الوطني، فيما يسعي خصوم السنية الشيعة والمسيحيون إلى تحقيق اختراقات متعددة داخل بيئتهم، وتحديداً حزب الله الذي نجح في العام 2018 بترسيخ اختراقات برلمانية عبر اختراع بدعة تجميع النواب في كتلة اللقاء التشاوري، واستناداً إلى أبناء عائلات وبيوتات سياسية مناطقية. وحالياً ثمة تحدّ أساسي أمام السنّة وأمام حزب الله أيضاً. فهم يواجهون استحقاق إنتاج بديل عن الحريري، فيما يسعى حزب الله إلى الاستثمار في غياب الحريري لترسيخ اختراقاته أكثر فأكثر، وهذا الواقع معطوف على مساعي حزب القوات اللبنانية لإحداث خرق في بيئة "الحريرية" ووراثتها استناداً لدعم سعودي تتمتع به القوات.
ولا ينفصل الترهل أو الانهيار السنّي في لبنان عن تراجع السنية السياسية في المنطقة والإقليم. ومشروع تهجيرهم سياسياً قائم منذ اجتياح العراق. واستكملت في سوريا بسحق الثورة السورية وممارسة التطهير العرقي وتهجير سكان المدن الكبرى، بدون القدرة على إنتاج مشروع وطني قادر على حفظ مرتكزات القوة لديهم. ثم برز التراجع الخليجي الكبير عن المشرق العربي، ولم ينجح السنّة، لا في لبنان ولا في سوريا أو العراق، في بلورة مشروع قادر على استجلاب العرب في هذه البقعة من الشرق.
واليوم وفقاً لمراجع سنية من الصف الأول بات يصعب التكهن بمآل الجمود على الساحة السنيَّة في السياسة والبرلمان والحكم، وليست المسألة إحباطا سنّياً بالمعنى العملي، فالسُنَّة في لبنان، كما في كل محيطهم، شعروا بالإحباط منذ عقد ونيف، وذلك مع سقوط العراق بين الفكيْن الأميركي والإيراني. وقد ازداد الوضع تعقيداً مع تحقيق حزب الله تقدما مطردا على الساحتيْن اللبنانية والسورية وصولًا إلى اليمن. ومع انكفاء دول الخليج عن التطلع قدمًا لدعم أي قوة سنيَّة صاعدة. وهذا وضع مرشح للاستمرار حتى موعد الانتخابات النيابية، إذا ما جرت، إلا إذا سُجل خرق كبير كتسوية إقليمية كبرى برعاية دولية- أميركية بشكلٍ خاص، في خطوة من شأنها أن تدفع السعودية إلى العودة إلى المشرق العربي، بشرط أن تتحقق بضع من الشروط الخليجية في اليمن وسوريا ولبنان.
إقليمياً لا يمكن فصل مسارات المنطقة عن بعضها بعضا فالخليجيون الذين غادروا لبنان سياسياً بات اليمن تركيزهم الأساسي ومكمن الحلول بعد تساقط الصواريخ الحوثية على أبوظبي والرياض، فيما تركيا حسمت أمرها وأبلغت كل المعنيين به، لا حضور في لبنان لسد فراغ الحريري في قواعد التأييد السني لها.
واللافت أن هناك تطورا دراماتيكيا في العلاقة التركية السعودية وهذا التطور اللافت كانت الدوائر المشتركة تعيد تشكيله بعيداً عن الضوء منذ نهاية العام 2020 واستمر تصاعدياً حتى بلغ مراحل متقدمة في العلاقة المشتركة وستترجم بزيارة الرئيس التركي إلى الرياض وأبوظبي وقبيل الزيارة جرى رفع الحظر غير الرسمي على البضائع التركية في السعودية حتى إن الإعلام السعودي خفف اندفاعته الهجومية على أنقرة.
فيما اللقاءات غير المعلنة كانت تعقد وآخرها ما حكي عن لقاءات جمعت نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان مع رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان في العقبة تارة وفي الدوحة تارة أخرى، إضافة إلى أن التعاون العسكري بين الأتراك والسعوديين بلغ أشده عبر شراء السعوديين درة التاج التركية "بيرقدار وأكنجي" المسيرة والتي تدك معاقل حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش في العراق وسوريا والتي أذاقت حزب الله والنظام السوري الويلات خلال محاولة اجتياح إدلب، وهذه المسيرات والتي تتميز بنشاطها الفائق في الجبال ستكون في متناول الرياض في حربها الدائرة مع الحوثيين، وفي المعلومات فإن الفريق المحيط بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعد أوراقا وأبحاثا متقدمة حول ما يمكن أن تقدمه أنقرة للرياض وأبوظبي في ردع الهجوم المستمر على أراضيهما من قبل الحوثيين.