أسئلة عديدة تُطرح حين يتم تناول الرواية، التي بدأ سوريون في كتابتها بعد انطلاق الثورة في منتصف عام 2011، تطاول عوالمها وموضوعاتها ومراجعها وأزمنتها وأمكنتها وسوى ذلك، إذ صارت تكتب في شروط وأجواء مغايرة لمرحلة ما قبل الثورة، وتمتلك سمات وفسحات ومواضيع جديدة، يحاول النقاد تلمسها بكيفية مبتكرة، والنظر فيما يختلف به الاشتغال الروائي الجديد عما سبقه، خاصة وأن الرواية التي تُكتب باتت تمسّ حياة السوريين، وتسرد الأحداث التي عايشوها، مع الأخذ في الاعتبار أن تناول الروائي وقائع وأحداث حياة الناس في سوريا، وفي أي بلد من بلدان العالم، يختلف كل الاختلاف عن تناول المؤرخون والمفكرون وسواهما لها.
وأضحت الرواية التي يكتبها سوريون تشكل ذاكرة الناجين من الموت والقتل، ومن جحيم نظام الأسد وسائر قوى الأمر الواقع الأخرى، وتعبّر عما عاناه سوريون مستباحون في بلدهم، الذين تعرضوا فيه للاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقصف والحصار والتجويع والتهجير، لذلك يحضر في رواياتهم الموت والقتل والقمع والاستبداد، وزنازين السجون والمعتقلات، والثورة والحرب، واللجوء والمنفى، ومصير البلد، ومآلات الناس، والطائفية، والنزعات القومية، والتشدد الديني وسوى ذلك، وبالتالي فإن الرواية في سوريا راحت تكتب الحياة الاجتماعية للناس العاديين، وتتجه نحو التعبير عن أحوال الانسان العادي الذي لا يحسن الكتابة، لتقترب الكتابة الروائية من جوهرها العميق المتمحور حول الإنسان وأسئلته الدفينة، فتكتب تاريخه بالابتعاد عن التاريخ الذي تزيفه قوى التسلط، وكتبة نظام الأسد المدافعين عن طغيانه وجرائمه وفساده.
ويفضي الاشتغال النقدي على الرواية بشكل عام، وعلى رواية الناجين السوريين بشكل خاص، إلى فعالية نقدية فاحصة بامتياز، تحتل فيها فكرة الإشكال موقعاً مركزياً، كونها تصوغ مفهوماً إشكالياً حول فعالية الرواية، وتستلزم من الناقد الحقيقي طرح أسئلة لم تُطرح من قبل، وأن يجترح إجابات غير مطروقة من قبل، أو بالأحرى غير مسبوقة، وهو أمر لا يتحقق من دون الاستناد إلى منهج نقدي، يفترق تماماً عن المنهج المدرسي السكوني، الذي يعمد إلى نهج مفتعل من الفصل ما بين الرواية بشكل خاص والأدب بشكل عام وبين ما هو خارجهما. منهج تتشكّل أدواته وأسئلته من تفاعل وحوار الرواية مع العالم، ومع الفلسفة والسياسة والتاريخ، ومن ذائقة نقدية لا ترتهن إلى الأيديولوجي أو الديني أو سواهما.
إن الرواية في سوريا بعد الثورة كتبت تاريخ الناجين من جحيم نظام الأسد وأترابه ويمكن القول إنها كتبت تاريخاً ناجياً وأدمنت عليه لكنها صارت تمثل أيضاً وجهاً أو وجوهاً من الأمل الإنساني
وعرفت الرواية السورية بعد الثورة بروز روايات الناجين السوريين، التي تتقاطع مع ما تحمله الروايات السيرية، واكتسبت هذه السمة لأن الكاتب الروائي، بشكل عام، قد يتكئ على سيرته بوصفه أحد هؤلاء الناجين، أو قد يتكئ على سيرة أحد غيره منهم، وذلك لأن مسعى الروائيين في كتابة سيرة الناجين يعكس الرغبة في التعبير عن الذات الفردية والجماعية، واتخاذ عوالم حيواتهم نماذج يتمحور حولها عالم الرواية والعالم المعاش كذلك، وبما يجعل الرواية متسعاً للسير الواقعية والمتخيلة، إضافة إلى أن الفن الروائي يمتلك قدرة كبيرة على استيعاب مختلف الأجناس الأدبية وسواها.
وليس صحيحاً أن رواية الناجين السوريين، تقطع مع التخييل والاشتغال والتشبيك وسوى ذلك، كونها لا تتطابق مع كتابة المذكرات أو السير الذاتية عن حياة شخصيات وما قامت به من أفعال وأدوار، كي نضعها في حيز معيار الصدق، لأنه إذا كانت الذات، ذات الكاتب أو الأخر، بوصفها محور العملية التخييلية في الرواية، ومادتها ومضمونها أيضاً، هي التي تغذي السرد، وتؤطر الحكاية، وتستعيد التجربة الحياتية المعيشة، فإن الأمر لا يتعلق بممارسة نرجسية لا تعني سوى صاحبها، بل يتعلق بالبعد الجمعي للذات الساردة في الرواية، الذي يبرر التخييل الذاتي ضمن نسيج الرواية، لأنها تعرفنا بموقع الآخر، وبتجربته في الوسط الإنساني، من حيث تعرفنا بموقعها الخاص، وتتكاثف رمزياً لتحيل إلى الحياة والعالم.
وإذا كان التخيّل الإبداعي في الرواية هو الفعل الأساسي فيها، إلا أن حدوده غير مقيدة، كما الرواية ذاتها المفتوحة على السير والوثائق واليوميات والمذكرات والشهادات، فضلاً عن أنها قد تلجأ إلى الأسماء المستعارة، وإلى التاريخ، والماضي والراهن، وتداخل الأزمنة، وهو ما ظهر في الكتابات الروائية السورية بعد الثورة.
ويمكن تحديد سمات رواية الناجين السوريين في نقاط كثيرة، لعل أهمها:
- منذ بداية الثورة، انتفت الرقابة بكل أنواعها الذاتية والسلطوية، وزال كابوس الخوف عن كاهل كتاب وأدباء، من روائيين وشعراء وسواهما، فراحوا يكتبون بحرية رواياتهم وأشعارهم، خاصة في بلدان اللجوء والشتات، ويعبرون عما يدور في دواخلهم، وما عانوه من قمع وقهر وتشويه، بالرغم من الألم والخراب الذي يعتصر قلوبهم. وكان من الطبيعي أن تشكل المعاناة الفردية والسير الذاتية أحد أهم المرجع في كتاباتهم الروائية، بما يعني اقترابها من الرواية السيرية والتسجيلية أو الوثائقية، لكنها باتت تواجه تحدّ على مستوى فن الرواية ما بين الحدثي والإبداعي، وذلك في سياق تشكيلها مجالاً رمزياً للمواجهة مع التوثيق ومع الحدثي في التاريخ، ولمواجهة السلطة بكل أنواعها.
- تعدد الروايات التي ارتكزت على التاريخ السوري في محاولة إعادة كتابته من وجهة نظر الناجين من جحيم الأسد، فراحت تنهل من محطات في التاريخ القديم والحديث، لتواجه تاريخ السلطة وطرق اشتغالها السياسي من جهة التداخل ما بين الثقافي والسياسي، حيث يواجه الروائيون مختلف أنواع التمركز السلطوية، السياسية والدينية، وبما يمنحهم التخييل الجرأة على مواجهتها، وعلى تجاوز مركزية المؤرخ أيضاً، خاصة المؤرخ السلطوي، السياسي والإيديولوجي.
- إن كان من الصعب إحصاء عدد الروايات التي كتبها السوريون بعد انطلاق الثورة، إلا الروايات الأولى بدأت بالصدور منذ عام 2012، وأخذت تتواتر فيما بعد بزخم كبير، وربما وصل عددها إلى أكثر من مئة رواية مع العام 2022، لكنها لا تشكل في مجموعها "رواية الحرب" أو "رواية الثورة"، بالرغم من أن مواضيعها لا تبتعد عنهما، لأن الحرب لا رواية لها، والثورة أيضاً لا رواية لها.
- تشكل مدخل جديد، يتجسد في رواية ما بعد الثورة، أو بالأحرى رواية الناجين، التي أطاحت بنمط الكتابة الروائية الذي كان سائداً قبلها، من حيث أن بطل الرواية لم يعد حالماً قومياً، ولا صعلوكاً متشرداً. ولم تربط الرواية زمنها بأزمنة النكبات والنكسات والهزائم العربية في الحروب، كما لم يعد البطل يشكو من العصاب والكبت الجنسي وسوى ذلك، لأن الصراع أضحى بين البطل وعالمه، وبما يمكن القول إن الرواية غدت نسقاً لتشكّل وتقاطع معان ورؤى حول وجود الإنسان السوري العادي وحياته ومصيره، ومجالاً لصراع الأفكار واختلاف المواقف.
- بروز أسماء جديدة عالم الرواية، وتحول بعض الشعراء والقاصين والكتاب إلى الرواية، إلى جانب بعض الإعلاميين والناشطين، الأمر الذي أحدث تغيراً في موضوعات الرواية، ودخولها عالم السياسة، لكن ذلك لا يعني وسمها بالرواية السياسية لاعتبارات عديدة، فضلاً عن أنها تميل إلى إحداث قطيعة مع السياسة واللجوء إلى المتخيّل السياسي.
- ظهر تساؤل يمتلك وجاهة حول ما إذا كانت ستتشكل لاحقاً رواية مهجر سوري، بالنظر إلى ملايين السوريين اللاجئين والمهاجرين الذين انتشروا في البلدان العربية والأوروبية وتركيا، وما يفرضه ذلك من تلاقح مع آداب هذه البلدان.
والحاصل هو أن الرواية في سوريا بعد الثورة كتبت تاريخ الناجين من جحيم نظام الأسد وأترابه، ويمكن القول إنها كتبت تاريخاً ناجياً، وأدمنت عليه، لكنها صارت تمثل أيضاً وجهاً أو وجوهاً من الأمل الإنساني، حيث يعتبر المستبد الواقع اليومي المعيش بوصفه واقعاً ثابتاً متجانساً، أبدياً ووحيداً، بينما تعاملت الرواية مع الواقع بصيغة الجمع، فالواقع كان، والواقع يتكوّن، والواقع يُخلق ويتطور ويتجدّد على الدوام.
-----------------