في محاضرة للدّكتور طارق السّويدان بعنوان "نصائحي لنفسي لو عاد بي الزَّمن" ألقاها خلال فعاليات معرض الكتاب العربي في إسطنبول 2017، نصح الدّكتور الشَّباب بعدم قراءة الرّوايات لأنها "مضيعة للوقت" وفق وصفه، وشجعهم على قراءة الكتب التي تتضمن الفائدة مثل كتب التَّاريخ والإدارة والعلوم الإنسانيّة.
ظاهرة ازدراء الرِّواية وعدم النصح بقراءتها لا تتوقف عند الدّكتور سويدان، فطالما كان بعض المؤثّرين يقلّلون من قدر الرّوائي ويحَجِّمون من تأثيره حتَّى وإن كانت روايته تصبّ بذات الأيديولوجيا التي ينطلقون منها. ووصلت الحالة ببعض النَّاس إلى السؤال عن حكم قراءة الرّوايات، أهوَ حرام أم حلال!
ولكونه لا يوجد في النص الديني ما يمنع من قراءة الرّوايات، فغالباً ما تكون الفتاوى بالنّصح والإرشاد حول عدم قراءة الرّوايات التي تحتوي على ما يخالف الأخلاق ويدعو إلى الرذيلة، ثم النّصح بقراءة العلوم الناّفعة وتجنب "مضيعة الوقت".
-
السّفرَ يقضي على ضيق الأفق والتَّعصب (مارك توين)
قارئ الرِّواية مثل المسافر يقطع الفَيافي والقفار، يتجول عبر الأزمنة والأماكن، وقارئ الرّواية أكثر مرونة تجاه المتغيّرات المختلفة. فالرّوايات من الأدوات الناعمة لتغيير البشر، عندما نعيش مع البطل ونتعاطف معه "الذي قد يكون قاتلاً أو فتاة ليل أو سارقاً"، قد تتغير نظرتنا للأشخاص الذين قد يرتكبون مثل هذه الأفعال، وقد نكون أقلَّ حِدَّة في نبذهم، ولذلك نجد أنَّ الشُّعوب التي تقرأ الأدب عموماً أقلَّ عنصريّة وطائفيّة وعصبوية في العموم، وأقلّ شعوراً بالتَّفوق المزعوم، وتقتل الكبر والعنجهية.
قراءة الرِّواية تمنعنا من إطلاق الأحكام على النَّاس وكأننا قضاة في محكمة، وتجعلنا نتفهم معاناتهم. ننكر الفعل أو السّلوك، لكنّنا بالوقت نفسه نتفهّم الأسباب الّتي وصلت بهم لارتكاب هذا الفعل أو التّعود على هذا السلوك، وبذلك نكون أقرب لجوهرنا الإنسانيّ وتزيد قدرتنا على التّسامح.
لا شكّ أن الرّوايات تشعر قارئها بالمتعة، وهذا سبب قرائتنا لها بدايةً، لكنَّ مفاعيل هذه الرّوايات فينا لا يمكن أن تُختصر بجملة أو كتاب. قارئ الرِّواية يعيش حيوات متعدِّدة، حياة هوزيه مثلاً، وعيسى الكويتي ابن الخادمة الفلبينية، ويعيش معاناة الأم والابن في الفلبين والكويت (رواية ساق البامبو/ سعود السنعوسي).
وقارئ الرِّواية يعيش حياة "ليلى التّكيلا" التي قُتلت ورُميت في أَحد مكبات القمامة، لنعيش خلال 10 دقائق و38 ثانية "مدَّة بقاءِ العقل مُستيقظاً بعد الوفاة" أهم محطات حياتها منذ أن كانت صغيرة بكنف والدها المتعصِّب دينيّاً وعمّها المتحرّش بالأطفال "البيدوفيليا" إلى لحظة قرار المشفى دفنها في مقبرة الغرباء لتكون رقماً على شاهدة قبر. نعيش معها انكساراتها المتكررة ونتعاطف معها تارةً، ونلعنها تارة أخرى (رواية 10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب/ أليف شافاك). قارئ الرواية يعيش حياة أيدن الشَّاب الكويتي ذي الأصل التّركيّ، نعيش معه معاناته في اختلاف العادات بين مجتمعين، نعيش تفاصيل حياته مع جدّته التّركيّة أينور وأمّه أمل الكويتية، نعيش مفارقات غاية في الألم والضحك بذات الوقت، فبينما يتفاخر الكويتيون بكثرة الخدم، تعتبر رعاية الأبناء من قبل الخدم نقيصة لا تغتفر عند العائلات التّركيّة العريقة (رواية صاحبة الفيروزتين/ طارق حمد).
الرِّواية كبسولة سحريّة لعلاج التّعصب، فنلفّ من خلالها العالم وندور القارات، نعيش تجارب بشريّة مختلفة، نتذوق أطعمة من بلدان مختلفة
في كلِّ رواية العديد من الشَّخصيات التي نتشرَّب صفاتها وملامحها النَّفسية قبل مظهرها الخارجي، عندما نعقل تجارب عيسى وطارق وليلى وغيرهم، فإنّنا سنفهم ردود أفعال البشر من حولنا ممن يمتلكون تجارب مشابهة، أو هكذا يفترض بنا أن نكون.
الرِّواية كبسولة سحريّة لعلاج التّعصب، فنلفّ من خلالها العالم وندور القارات، نعيش تجارب بشريّة مختلفة، نتذوق أطعمة من بلدان مختلفة، نتخيل أماكن لم تطأها أقدامنا، نبكي تارة لموقف محزن ونضحك تارة أخرى لموقف طريف. وبين الفرح والحزن هناك قيم تترسّخ بأذهاننا دون أن ندري وهناك سلوكيّات ستتغيّر لدينا، هناك مشاعر نعيشها لأوّل مرّة مع الرِّواية، فنتخلّص من انغلاق الفكر، ونؤسّس مجتمعاً أكثر تسامحاً وتحضراً.
قارئ الرِّواية يتمتَّع بحسٍّ إنسانيّ عالٍ ويمتلك مهارات التفكير النّقدي، ولديه تجارب حياتية واسعة تفوق تجربتة الشَّخصية، شخص بمثل هذه المواصفات يصعب أدلجتة، يصعب تدجينة من قبل طاغية، يصعب خداعه من ماكينة إعلاميّة.
الرِّواية هي الحل؟
الشخص الذي يقرأ ضمن مجال معرفي واحد، سيجد أن حلول المشكلات المختلفة يكمن في ذلك الجانب الذي يقرأ فيه فقط، كمن يرفع شعار "الدين هو الحل" أو "العلمانيّة هي الحل" أو "الصراع هو الحل" وهلم جرّاً.
يتجلّى ذلك -على سبيل المثال- عند الشيخ الراحل محمد رمضان سعيد البوطي، ففي بداية حياته كتب روايتيين "ممو زين" و"سيامند ابن الأدغال" لينبئنا بموهبة روائيّة تحتاج إلى صقل وممارسة، الأمر الذي لم يتم بسبب انصرافه لمشروعه الفكري/ الديني الخاص.
ماذا لو أنّ البوطي أكمل مشروعه الرّوائي أو على الأقل استمر في قراءة الرِّواية بالتوازي مع مشروعه الخاص؟ هل كان سيصدّق الأخبار التي تزوِّده بها السّلطة ويرويها على منبره؟ هل كان سيشبِّه جيش النِّظام بجيش الصّحابة؟ هي مجرد تساؤلات، ولكن من المرجّح أن الشيخ الراحل كان سيقرأ الواقع بدقة ومن جوانبه المختلفة لو استمر في مشروعه الروائي.
الرّوايات تجعل قارئها يدرك أن هذا الواقع مركب ولا يمكن فيه فصل الجانب السِّياسي عن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، تجعله ينظر إلى الواقع من علوٍّ، فيفهم التّداخلات بين الجوانب المختلفة، يفهم العلاقة بين السَّبب والمسبِّب، في كل رواية جديدة هناك اكتشاف جديد للوجود فالــ "الرِّواية التي لا تكشف جانباً جديداً للوجود هي رواية لا أخلاقية"(ميلان كونديرا).
-
"الكاتب يبحث عن الحقيقة، ويروي الأكاذيب في كلِّ خطوةٍ على الطريقِ إليها" (آن لاموت)
العلم والرِّواية مشتركان في الغاية، مختلفان في الوسيلة، كلاهما يبحثان عن الحقيقة، فالعلم يسعى للحقيقة ولا شيء آخر غير الحقيقة، الإنجازات العلمية التي تتحقّق من خلال البحث عن الحقيقة هي أعراض جانبيِّة لا يخطط العلم للوصول إليها، استثمار الاكتشافات العلميّة سلباً أو إيجاباً ليست من مسؤولياتِ العالِم.
تسعى الرواية للحقيقة من خلال تكثيف الأحداث بحيث نقرأ مسيرة شعب أو فرد بعدد صفحات يقارب الـ50 ألف كلمة، هذا التّكثيف يسمح لنا بفهم الارتباط بين المقدِّمات والنَّتائج، وكذلك يجعلنا نتوقف عند مسلّماتنا الفكرية لنعيد التّفكير بها، بعض الأفكار من كثرة استخدامها لم تعد تثير اهتمامنا، فلا نكترث بها. وتأتي الرِّواية لتقول الأفكار ذاتها بشكل غرائبيّ يثير الدهشة، فتُغرّب المألوف وتؤلّف الغريب.
-
"الحمولة الثقافيةَ للنّص تصل إلى القارئ وفق خصوصيّة رغبته" (فانسون جوف).
لا غرابة إذن أن ترتبط العلوم بالفنون خلال تاريخ البشريّة الطويل، لا غرابة أيضاً أن يرتبط نشوء الحضارة بالفنون والعلوم معاً، فعندما نذكر الحضارة الإسلاميّة بعصرها الذهبي على سبيل المثال نذكر علماء مثل الخوارزميّ وابن سينا، كذلك شعراء مثل جلال الدّين الرّومي، هذا إذا سلّمنا أن الفنون منفصلة عن العلوم، فجلال الدّين الرومي إلى جانب كونه شاعراً فهو فقيه بالمذهب الحنفي، وبدعة فصل العلوم عن بعضها بحجة التّخصص هي بدعة معاصرة لم يعرفها علماؤنا الأوائل.
أسباب كثيرة تدفع ببعض الشخصيات العامة إلى النصح بالابتعاد عن قراءة الرواية، رغم معرفتهم بقدرتها على تغيير نمط تفكير مجتمعات وأفراد، وبأنها لقاح مجرّب وناجح لتحصينهم من الأيديولوجيا الضّيقة والمنغلقة والعمياء. ربما لموقفهم من روايات تخطّت في تفاصيلها المقدّسات وتطاولت عليها كرواية "أولاد حارتنا" لـ نجيب محفوظ، أو "آيات شيطانية" لـ سلمان رشدي أو "وليمة لأعشاب البحر" لـ حيدر حيدر، وغيرها من الروايات والأسباب. إلا أن ذلك لا يشكّل نقطة في بحر أدب الرواية وخطابها الإنساني العابر للقارات.