لم يسعَ نجيب محفوظ، وهو الكاتب الكبير، للحصول على أية جائزة، حتى ولو كانت محلية، ونال، مع ذلك، أعلى الجوائز العالمية شأناً (نوبل للآداب 1988)، وفي السنة التالية حصل على الوسام الرئاسي من الجامعة الأميركية، وشهادة الدكتوراه الفخرية من الجامعة ذاتها. وفي عام 1992، جرى تكريمه بوصفه عضواً فخرياً في الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، وفي عام 2002 انتخب عضواً فيها.
ولد نجيب بن عبد العزيز بن أحمد محفوظ في حي الجمالية بالقاهرة يوم 11 أيلول سنة 1911. هذا التاريخ سيصبح، بعد تسعين سنة، يوماً مشهوداً ارتكب فيه تنظيم قاعدة الجهاد مجزرة في أميركا، وانطلقت أميركا، على إثرها، لترتكب مزيداً من المجازر في أكثر من مكان في العالم، ولتعلن عن ضرورة إحداث "فوضى خلاقة" في منطقتنا، وهي، في الواقع، فوضى دموية مدمرة ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، ستؤدي، بلا شك، إلى تفتيت عشوائي للدول القُطْرية الموجودة بصيغة "خرائط سايكس بيكو" التي رُسِمَتْ قبل مئة سنة.
كان نجيب محفوظ إنساناً متواضعاً، دمثاً، يحتفظ للآخرين بما لهم من فضل وقيمة، وقد سئل، عشية فوزه بنوبل عمن يستحقها من الأدباء العرب، فقال، بلا تردد، يحيى حقي، لأنه المؤسس لفن القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، وقال: أنا لا أستحقها بوجوده، وأهدي هذا الفوز إليه.
والحقيقة أن لنجيب محفوظ إنجازاً تاريخياً كبيراً، لم يبلغه يحيى حقي ولا غيره من الأدباء العرب، مع بالغ الاحترام، هو: تمكنه من نقل الاهتمام بالرواية من مستوى النخب المثقفة إلى مستوى الجماهير العريضة، فما عدت تعدم مشاهدة رجل لم يكن من قراء الرواية أصلاً وهو منهمك بقراءة ميرامار أو زقاق المدق أو بين القصرين، إضافة إلى ما ساهمت به السينما عندما بدأت تنقل أعمال نجيب محفوظ إلى الشاشة، وعلى نحو موفق..
لقد تمكن نجيب محفوظ من إجراء هذه النقلة النوعية بامتلاكه لغةً سهلة توحي لمن يقرؤها بأنه يفكر بالعامية ويترجم ما يفكر فيه إلى اللغة الفصيحة، وليس العكس، إضافة إلى دخوله في بيئة الشارع المصري، وتقديمه تلك البيئة بوصفه واحداً من أبنائها، وليس من المتفرجين عليها من الجو.
تعرف نجيب محفوظ على يحيى حقي في العمل. ففي سنة 1955 أحدث وزير الإرشاد المصري مديرية الفنون، وسلم إدارتها ليحيى حقي، وأصبح نجيب محفوظ موظفاً فيها، ومن الطريف أن نجيباً كان يقف احتراماً ليحيى كلما دخل المكتب، ويحيى كان يعترض إذ لا لزوم لذلك بين صديقين، ونجيب كان يصر على ذلك قائلاً: إنه يجب الفصل بين الصداقة والاحترام في العمل.
سنة 1988 أقيمت في مدينة سيئول الكورية الجنوبية دورة الألعاب الأولمبية، وفيما بعد كتبتُ - وأنا أخوكم - قصة قصيرة "فانتازية" ملخصها أن اللاعبين العرب الذين شاركوا في تلك الألعاب حققوا نتائج مخجلة خلال تلك المنافسات على الرغم من الأموال الطائلة التي تصرفها حكومات الدول العربية على لاعبيها، ولذلك قرر العاملون في أحد المطارات العربية أن ينتقموا منهم، وصاروا، كلما وصل لاعب عائد من سيئول يتجاهلونه، وينقعونه في مكان مهمل طالبين منه الانتظار ريثما ينتهي الموظف المختص من تدقيق معلومات جواز سفره، فإذا قال لهم: أنا اللاعب فلان، يقولون له: هس. عيب. لا تعلي صوتك. أيش يعني لاعب وما لاعب؟ أو يقولون له: آسفين يا أخ نحن نتفرج على الألعاب الأولمبية ليل نهار وما مر معنا اسمك.. وبعد تنفيذ الخطة، طلب أحد الموظفين من اللاعبين المحتجزين أن يقفوا أمامه على شكل مربع ناقصٍ ضلعاً، ليوزع عليهم جوازاتهم بعدما تم تدقيقها وختمها، وأثناء ذلك يأتي رجل مسرع ويقول: البشرى يا شباب نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل! فيعم الفرح الجميع، ويبدؤون بالغناء والهتاف والدبكة.
سئل نجيب محفوظ، بعدما أنجز عدداً كبيراً من الروايات، عن الشخصية الفنية التي تشبهه فقال: كمال أحمد عبد الجواد (في الثلاثية). ومن الأمور المسلية أن كمال يظهر في السلسلة التلفزيونية المأخوذة عن ثلاثيته، سيناريو محسن زايد وإخراج يوسف مرزوق، بصفة فتى منغلق على نفسه بسبب تربية والده الصارمة. ولكن انطوائية نجيب محفوظ لم تكن سلبيةً في حالته، بل ربما ساعدته في أن يكون مبدعاً كبيراً، عنيداً، معتداً بنفسه.. وفي الحلقة الأخيرة من الجزء الأول، بين القصرين (17 حلقة)، يَقتل حكام مصر الإنكليز الشاب فهمي، شقيق كمال، وفي الجزء الثاني، قصر الشوق، حينما يصبح كمال عبد الجواد أديباً وصحفياً متميزاً، يكتب مقالة عن نظرية أصل الأنواع لداروين.. يَعلم بها والدُه أن ابنه قد نشر مقالة في الجرنال، فيفرح ويبتهج، ولكنه، حينما يقرؤها، يغضب، إذ كيف يكون أصل الإنسان قرداً؟ يا ساتر. وعلى جناح السرعة يستدعي ولده ويبدأ بتقريعه ولومه على هذا المقال (اللي مش فايت). كمال يدافع عن نفسه بأنه لا يمكن أن يتحمل وزر هذه النظرية، لأنه ليس صاحبها، وإنما هي للعالم الإنكليزي دارون، وهنا تحصل مفارقة جميلة، وهي قول الأب لكمال:
- يا ولد، أنت ازّاي تنقل كلام عن عالم إنكليزي، والإنكليز هُمَّ اللي قتلوا أخوك فهمي؟!
في سنة 2006، وبالتحديد يوم 30 آب، توفي نجيب محفوظ عن عمر 94 سنة، ولكنه كان قد تعرض، قبل وفاته بسنتين، لطعن بالسكين من شاب متعصب. سبب هذا الاعتداء أن الشاب المعتدي كان قد سمع من الناس أن نجيب محفوظ كتب رواية اسمها أولاد حارتنا فيها كفر! ولكن نجيب محفوظ نجا من الموت.
عقب الأديب السوري محمد الماغوط على حادثة الطعن بقوله:
- لا يمكن لموهبة كبيرة، مثل موهبة نجيب محفوظ، أن تمر دون عقاب!