عندنا؛ لا يوجد أكثر من الأقوال والأمثال والمصطلحات التي تشير إلى التناقض في الأشياء، والتمييز بين الناس، والكيل بمكيالين. إذا رأى أهلُ دمشق شيئاً من هذا القبيل يقولون: شو يابي؟ خيار وفَقُّوس؟
وفي إدلب يقولون: أشو يو خاي؟ شمس وفَيّ على سطح واحد؟
وفي الأرياف يقولون: أحمد يرث وأحمد لا يرث؟
إنها حالات كاريكاتورية تخالف حتى المنطق البسيط القائل باستحالة وصف رجل ما بأنه: طويل وقصير، نزق وحليم، حقير وقلبُه طيب.
ذات مساء؛ في أوائل التسعينيات، دُعي المحامي نجاة قصاب حسن (1920- 1997)، للمشاركة في برنامج تلفزيوني، ضمن حملة تبنتها وزارةُ الإعلام بالاشتراك مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، الهدفُ منها حض الشعب السوري على تحديد النسل، بذريعة اتقاء الانفجار السكاني.
كان في البرنامج، بالإضافة إلى المحامي نجاة، رجلُ دين مسلم، وآخر مسيحي، وسيدةٌ ممثلة عن الاتحاد النسائي. استهل المحامي نجاة حديثه قائلاً إن في مقدور النائب العام بدمشق، إذا شاهد هذه الحلقة، أن يُصدر قراراً فورياً بإلقاء القبض علينا نحن الموجودين في الاستديو، بالإضافة إلى معد البرنامج ومُخرجه، وإيداعنا في الحبس، لمخالفتنا المادة القانونية (رقم كذا)، التي تحكم على مَن يذيع أساليبَ تؤدي إلى منع الحمل، بالحبس من شهر إلى سنة، وغرامة مالية مئة ليرة سورية.
نظام تلك الدولة التي أمضينا القسم الأكبر من أعمارنا فيها، سوريا، يقوم أساساً على تشكيلة واسعة من التناقضات، والمخالفات، والعدوان على كرامة المواطن...
قصدَ المرحوم نجاة بتلك الملاحظة أن على الدولة، عندما تريد أن تتصدى لعمل خطير كهذا، أن تعالج القوانين التي تتعارض مع هذا التوجه، وألا تحرض الناس على ارتكاب فعلٍ ما، قبلَ أن تتأكد من أنه لا يخالف القانون. ولكن (قانون إيه اللي أنت جاي تقول عليه)؟ الحلقة التلفزيونية مرت، وحلقات كثيرة غيرها عُرضت، والكل ضربها طَناش (لم يبالِ)، لأن نظام تلك الدولة التي أمضينا القسم الأكبر من أعمارنا فيها، سوريا، يقوم أساساً على تشكيلة واسعة من التناقضات، والمخالفات، والعدوان على كرامة المواطن...
طالبُ الثانوية العامة يطح، وينح، وتتورم جفونه من سهر الليالي حتى يحصل على 229 درجة، وإذا بكلية الطب البشري تطلب للقبول 231 درجة، وفي الوقت نفسه يُقبل ابن المدرس الجامعي بـ 150 درجة، مثلاً، وهذا يمكن اعتباره جنحة إذا قورن بالمظليين الذين دربهم رفعت الأسد في مطلع الثمانينيات وأفلتهم على الجامعات السورية التي يُقال إنها عريقة.
المحامي الشجاع نجاة قصاب حسن، نفسه، كان يخوض، في تلك الحقبة، معركة طويلة، من أجل استصدار قانون جديد للإيجارات، ليعالج الآثارَ الكارثية التي نجمت عن المخالفات الكبرى لقانون الإيجار القديم، ويفتح صفحة جديدة في تنظيم الإيجارات، بما يليق بشعب هذا البلد.
أصلُ الحكاية، باختصار؛ أن حزب البعث الحاكم أحدث في سنة 1964 فرقة عسكرية عُرفت باسم (سرايا الدفاع عن المطارات - الوحدة 569). كان لهذه السرايا – بحسب موقع التاريخ السوري المعاصر - دورٌ في أحداث واضطرابات كثيرة، منها تنفيذ انقلاب 23 شباط 1966، ثم إسقاط رئيس مكتب الأمن القومي عبد الكريم الجندي، سنة 1969.. وبعدما قام حافظ الأسد بانقلابه، سنة 1970، عمد قائد السرايا رفعت الأسد إلى توسيعها وتقويتها، وحصل، عن طريق شقيقه حافظ، على ميزانية ضخمة، وخص السرايا بأفضل السلاح والعتاد، مع رخصة باختيار أفضل الضباط والجنود من حيث القوة البدنية، وأكثرهم ولاء للنظام، وإعطائهم رواتب كبيرة، ومنحهم صلاحيات استثنائية على قاعدة أن أكبر قانون في هذا البلد يساوي قشرة بصلة، ولا يوجد كبير غير الجَمَل!
ضباط السرايا وعناصرها انفلتوا على الشعب، يلكزون هذا، ويرفسون ذاك، ويهينون ذاك، وعندما شعروا بحاجة ماسة إلى بيوت فخمة يسكنونها، بدؤوا بتكسير أقفال المنازل الخالية من السكان، واقتحامها، والإقامة فيها من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفة مَن يكون مالكوها، فإذا جاء مالكُ أحد تلك المنازل يطالب بمنزله، زجروه، ولكزوه في صدغه، وقالوا له: إن باب القصر العدلي يمرر جملاً بسنامين، فاذهب إلى هناك، وارفع علينا دعوى، ولا تنس أن تزودنا بعنوانك البريدي لكي نرسل إليك الأجرة الشهرية. (كانت أجرة البيت الذي يساوي مليوني ليرة، أقل من مئة ليرة، وهي غير قابلة للتخمين والزيادة).
بعد وفاة المحامي نجاة قصاب حسن بزمن طويل، صدر قانون جديد للإيجارات، وجرت تسوية أوضاع البيوت المستولى عليها، بمصالحات كان المالك بموجبها يحمد الله تعالى إذا استطاع أن يحصل، في خاتمة المطاف، على ربع حقوقه فقط!
القانون السوري يحكم على القاتل، بالسجن 15 سنة مع الأشغال الشاقة، ويعفي عنصر الأمن الذي يميت معتقلاً تحت التعذيب من أية مساءلة
في عام 1979، اندلع صراع بين النظام وحزب الطليعة المقاتلة، قال رفعت الأسد الذي كان الحاكم العسكري غير المعلن للبلاد، في المؤتمر القطري السابع لحزب البعث، بعدما أشاد بعبقرية الرفيق ستالين في قمع معارضي الحزب الشيوعي السوفييتي: إن الوقت قد حان للرد بقوة، نحن مستعدون لخوض مئة حرب، وهدم مليون حصن، والتضحية بمليون قتيل، للحفاظ على النظام.
القانون السوري يحكم على القاتل، بالسجن 15 سنة مع الأشغال الشاقة، ويعفي عنصر الأمن الذي يميت معتقلاً تحت التعذيب من أية مساءلة، إلا في حالة واحدة: وهي أن يعمد العنصر إلى إماتة المعتقل، بينما معلمه كان يريد إبقاءه حياً إلى حين انتزاع بعض الاعترافات الأخرى منه.. ووقتئذ يُنزل به تلك العقوبة الفظيعة: حلاقة الشعر على النمرة زيرو! وهذه ليست مزحة، فقد حصلت بالفعل، بحسب ما يروي الكاتب محمد برو في كتابه "ناج من المقصلة"، إذ قال إن مدير السجن، فيصل الغانم، استدعى العريف الذي أمات المعتقل خلدون الصباغ تحت التعذيب، وهدده بأنه سيحلق شعره على الصفر فيما لو وقع في مثل هذا الخطأ مرة أخرى.
كان حافظ الأسد، (ومثله وريثه فيما بعد) إذا سئل عن مصير بعض المعتقلين السياسيين يقول:
- نحن دولة يحكمها القانون. عذراً، فأنا لا أتدخل في عمل المحاكم!