هذه ليست مقالة أدبية تتحدث عن القصة القصيرة في سوريا؛ وإنما المقصود بالقصة هنا: المشكلة، أو القضية، أو الأزمة..
إذا نظرنا إلى "القصة في سوريا" من وجهة نظر خالد العبود، سنجدها بسيطة جداً: واحد تنين تلاتة، توكلوا على الله. ولكنها ستبدو أكثر تعقيداً فيما لو استخدمنا طريقة الدكتور قدري جميل الذي سئل عن سبب إقالته من وزارة بشار الأسد، سنة 2013 فقال: صارت ورانا.
لو تمليتَ، أيها الإنسان السوري، في القصة السورية جيداً، لأدركتَ أنها لم تكن أمامنا في يوم من الأيام، إنما هي وراءنا على الدوام. خلال سنوات حافظ الأسد الثلاثين كنا مرتاحين من الأمل، ومن أي تطلع إلى المستقبل، فحافظ كان (كما كانت تقول أبواقُه) أباً، قائداً ملهماً، يقود السفينة بمعلمية كبيرة، لا يترك مجالاً لشعبه أن يفكر، أو يحلم، أو يبدي رأيه.. لذا كان لزاماً علينا، نحن الذين أدركنا فترتَه، أن نقنط، وننام، ونعد الليالي، ليلةً بعد ليلة، إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي يُحمل فيه جثمانُنا على آلة حدباء، ونعثر، في خاتمة المطاف، على قبر يؤوي عظامنا.
لا شك أن بقاء حافظ الأسد رئيساً لسوريا على مدى ثلاثين سنة (عجفاء) كان إهانة للشعب السوري، ومع ذلك اعتبر الدكتور صادق جلال العظم، رحمه الله، عمليةَ توريث الحكم لبشار إهانة كبرى للشعب..
هنا أذكركم بطرفة الرجل الذي لم يكن مختصاً بتلقين الأموات، واضطر مرة لذلك، فقال مخاطباً الميت:
لقنتكْ تلقينكْ
وأنت متَّ على دينكْ
وإذا طال حكم حافظ الأسد
كلياتنا لاحقينكْ
لا شك أن بقاء حافظ الأسد رئيساً لسوريا على مدى ثلاثين سنة (عجفاء) كان إهانة للشعب السوري، ومع ذلك اعتبر الدكتور صادق جلال العظم، رحمه الله، عمليةَ توريث الحكم لبشار إهانة كبرى للشعب..
ما إن اكتملت عملية التوريث، وتلقينا الإهانة، وبلعناها، حتى راح الإعلام السوري المتخلف، الذي ورثه بشار عن أبيه، يأخذنا ويجي بنا، وكأننا مركب صغير تلعب به أمواج بحر هائج.
قالوا لنا: هذا الوريث القاصر (هُمْ – للإنصاف - لم يقولوا "القاصر") يريد أن يعمل انفتاحاً، وسيلغي قانون الطوارئ، والأحكامَ العرفية، والمادةَ الثامنة من الدستور، وستكون لدينا صحافة حرة، وبرلمان (متل الخلق)، وسيكون القانونُ سيد الموقف في هذه البلاد المنكوبة.. وقد صدّق قسم كبير منا هذه الوعودَ من مبدأ الغريق الذي يتعلق بقشة، سررنا، وفرفشنا، ولم يبق لنا سوى غصة واحدة، وهي إقدام مجلس الشعب، المعروف باسم مجلس التصفيق والدبكة، على تزوير أحد بنود الدستور، بإنزال السن القانوني لرئيس الجمهورية من 40 سنة إلى 34..
لم نتوقف، يومئذ، عند كون الدستور الذي زَوَّره مجلسُ التصفيق والدبكة، نفسه، مزوراً أساساً، ويبدو أننا كنا معتادين، من أيام الانقلابات العسكرية، على أن يفصِّل كلُّ ضابط انقلابيٌّ دستوراً يناسب مقاسه، ويجعله أداة لتنفيذ خططه.
حافظ الأسد، بعد وثوبه إلى السلطة في سنة 1970، وضع دستوراً لا يمكِّنه من إركاع المجتمع السوري والتنكيل به وحسب، بل ويتيح له أن يحوِّل الجمهورية العربية السورية إلى جمهورية وراثية، على غرار كوريا الشمالية، لذا ضَمَّنَه فقرة تنص على أن اختيار رئيس الجمهورية يكون بإرسال كتاب من القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، إلى مجلس التصفيق والدبكة، تَذكر فيه اسم مرشحها، وهو مرشح وحيد، اسمه، بداهةً، حافظ الأسد. وهناك رواية جرى تناقلُها شفوياً، تقول إن أحد أعضاء القيادة القطرية، وهو من المخلصين لحزب البعث، ولحافظ ونظامه، تساءل عن السبب في عدم إمكانية طرح اسم آخر في القيادة القطرية، بجوار اسم الرفيق حافظ، ولو على سبيل الاستئناس، فأسكتوه في الحال.. ولأن حافظ كان يحب هذا الرجل، فقد اكتفى بإقالته، وأعطاه سيارة مع سائقها، وخصص له راتباً شهرياً، وقال له: روح اقعد في ضيعتك حتى الممات.
مرت السنوات العشر العجاف التي تلت تلك المسخرة البلاغية التي عُرفت باسم "خطاب القسم"، بالشد، والمط، والمجاكرة، والملاسنة، وما يسميه أهل حلب (المجاقمة). إذا سأل أحدُ المواطنين مسؤولاً في الحزب أو الدولة عن قانون الأحزاب الذي وعدونا بإصداره، يقول له: طول بالك علينا يا رفيق، ألا ترى ما يجري في العراق، وأن جيوش جورج بوش الجرارة أصبحت قاب قوسين من سوريا الصمود والتصدي؟ يسأل رجل آخر مسؤولاً آخر: طيب، لماذا لا تلغون المادة الثامنة من الدستور، فترفعوا يد هذا الحزب الفاشي عن رقابنا؟ يرد عليه: طبعاً سنفعل، ولكن ألم تسمع بأن جهة مشبوهة اغتالت رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري؟ (وكأن مسؤولي نظام الأسد لا يعرفون مَن هي الجهة المشبوهة التي اغتالته)! وإذا سأل شخص ثالث مسؤولاً بعثياً عن سبب استمرار سريان قانون الطوارئ، ينط البعثي ولا يحط، ويقول: ألم تر يا رفيق كيف قامت مجموعات متآمرة من المثقفين والسياسيين السوريين بتوقيع بيانات تطالبنا فيها بدولة مدنية ديمقراطية؟ يا أخي غريب أمر هؤلاء الناس، وكأن دولتنا ليست مدنية ولا ديمقراطية!
أن عدداً كبيراً من الثوار الذين تبوأوا مناصب في الثورة، ودخلت جيوبهم أموال كثيرة، ما كانوا معارضين قط، ولم يكونوا مع الثورة قط، وهؤلاء تراهم أشد شراسة وعنفاً وراديكالية من الثوار الفعليين
القصة في سوريا، أن الشعب، بعد أربعين سنة عذاب وذل وقهر، انفجر، قام بثورة.. ولكن، تبين لنا أن الذين قاموا بالثورة مختلفون بالرأي حول كل شيء. قلة قليلة منهم يرون أن سوريا تحتاج إلى نظام حكم عادل، يحفظ حقوق الجميع، ويعتمد مبدأ المواطنة، ويسعى لبناء دولة علمانية ديمقراطية راقية.. ولكن، هناك أجندات أخرى كثيرة، أبرزها التي تقول إن ثورتنا ليست وطنية، ولا يستطيع أحد إقناع هؤلاء بأن مواجهة النظام الطائفي ستكون رابحة عندما يكون الشعب غير طائفي..
لا تقتصر القصة في سوريا على هذا التناقض. فهناك من يلوم أميركا لأنها لم تضرب القصر الجمهوري، مثلاً، وإذا سألته: ماذا نفعل بعد ذلك؟ يقول لك: وقتها لكل حادث حديث.
القصة في سوريا، أن عدداً كبيراً من الثوار الذين تبوأوا مناصب في الثورة، ودخلت جيوبهم أموال كثيرة، ما كانوا معارضين قط، ولم يكونوا مع الثورة قط، وهؤلاء تراهم أشد شراسة وعنفاً وراديكالية من الثوار الفعليين، وينظرون إلى كل من يحاول أن يتوقف قليلاً، ويجري مراجعة لما جرى، وينتقد بعض التصرفات، على أنه من الثورة المضادة، ويراهنون على أن هذا المنتقد المطالب بالمراجعة، لن يطول به الوقت حتى يرجع إلى حضن النظام الفاشستي الطائفي المجرم!