icon
التغطية الحية

الروائيات السوريات وحديثٌ عن اغتراب التجربة الإبداعية في رحلة اللجوء

2024.06.09 | 15:08 دمشق

5665
(لوحة: ماريا غياناكاكي)
+A
حجم الخط
-A

لقيت المرأة السورية المثقفة خارج حدود بلادها مساحةً من الحرية في التعبير كانت قد حُرمت منها في وطنها نتيجة القهر والاستبداد وزرع الخوف والشك في نفوس السوريين من قِبَل النظام السوري. وقد رأين أنَّ الكتابة عمل إبداعي، وهي جزء لا يتجزَّأ من قضية المرأة السورية التي كانت تمتلك مشروعها، ومن ثمَّ سعت لتجد مكانها الملائم في بلاد الاغتراب، بعد أن أصبح الشتات قدرها المحتوم مع الكثير من السوريين الذين نادوا بالحرية.

تعبِّر الكاتبة السورية شادية الأتاسي عن رؤيتها العميقة التي امتزجت فيها التجربة الإنسانية مع المعاناة خلال الثورة في سوريا، فالكتابة لم تكن تأتي عندها عفو الخاطر، بل إنَّها ترى أنَّ الكتابة الابداعية "عملية خلقٍ مستمرةٍ. تواطؤ مستمر للحركة"[1]، إنَّ ما طرأ على عملية الكتابة غيَّر الكثير من الثوابت التي كانت تعدُّها مطلقةً، ولا يمكن المساس بها، هذه الهزَّة القوية التي اعترت المسلَّمات جعلت الذات المبدعة تعيد النظر بكلِّ شيء، ومن هنا كان لا بدَّ للمبدع أن يعبِّر عن فلسفته الخاصة تجاه الكتابة، ووصف تلك التحولات والتشكيلات الجديدة التي بدأت تتبلور في وعيه، تقول شادية: "لقد وصلتُ الى هنا (سويسرا) محملةً بالكثير من الألم، مازالت أصوات الصواريخ ونيران القذائف وأخبار القتل والموت اليومي والرعب معششة في رأسي. كان لابدَّ من إيجاد عالم مواز يسند هذا الانكسار المريع. كتبت لأنجو، أنجو بالكتابة، لأواجه نفسي أولاً والعالم الخارجي ثانياً"، ويذكرنا هذا الكلام بمصطلح التطهير في المسرح الذي تحدَّث عنه أرسطو في كتابه "فن الشعر"، فالكتابة عندما تكون الطريقة الوحيدة التي يلجأ إليها الكاتب لينجو بنفسه هي تشبه ذلك التطهير الفني "الذي يحصل عندما يقرأ الإنسان أو يشاهد أو يصغي إلى ما يخافه ويخشاه ليتطهَّر منه على أرض الواقع"[2]، وهذا ما يحوِّل عملية الإبداع في مراحل لاحقة من عملية المقاومة إلى عملية التثوير التي تسعى إلى تغيير الواقع بواقع أفضل من خلال رصد الواقع بكلِّ حيثياته وتصوُّر وعي ممكن قد يصبح بديلاً حقيقياً في المستقبل.

الكتابة الروائية هي رؤية العالم التي يخلقها الكاتب ليحقق من خلالها ما لم يستطع تحقيقه على أرض الواقع

***

وتتحدَّث الكاتبة منهل السراج عن تجربتها الإبداعية المستمرة قائلة: "أنا لم أتوقَّف عن الكتابة خلال سنوات الحرب، الكتابة بالنسبة لي فعل وجود وبدهية حياتية، ولكن الظروف التي مرت علينا جعلتها مختلفة، ولا أدري إن كانت كلمة الاستشفاء دقيقة؛ لأنَّ الكتابة إبداع، والسوريون يستشفون يومياً من تأثيرات الحرب عليهم، فالكتابة يمكن أن تكون بالنسبة لي نوعاً من تمشيط الذات"[3]، ومن هنا كان لا بدَّ أن نتكلم على الاختلاف الذي حدث في تجربة الكتابة والذي يمكن أن يتراوح بين الفعل وردة الفعل، بين لذة الكتابة التي تحدَّث عنها بارت، وانفتاح الجرح كما عبَّر عن ذلك فرانز كافكا. بين بحث الكاتب عن تجربة جديدة يعبِّر عنها وبين أن يجد نفسه وسط العديد من التجارب التي تفرض نفسها عليه وتجعله يعاني من كثافة الموضوع من حوله. لذلك فإنَّ الكاتبة تختار أن تكون الكتابة حالة من تمشيط الذات لتتخلص عبر التجربة الإبداعية الأدبية من ثقل التجربة وتشارك القارئ عبء الواقع الثقيل، والقلق الذي ينتاب الكاتب ولا يستطيع التخفُّف منه إلا بعد الانتهاء من عملية الإبداع.

 

بينما ترى الكاتبة يارا وهبي أنَّ "العمل الإبداعي حالة من الشوق التي تفرض نفسها على الذات الإبداعية، فالإبداع في جزء كبير منه ليس عملاً اختياراً؛ لأنَّ الكاتب عندما يكتب يكون قد امتلك مسبقاً مخزوناً كبيراً من الإحساس بالتجربة والشعور بالمسؤولية والرغبة في مشاركة الآخر"[4] إنَّ الكاتب عندما يتخلَّى عن إرادته في اختيار الإبداع هو في حقيقة الأمر يختار، وعلى حدِّ ما ذهب إليه سارتر فهو يختار ألا يختار، "وباختياره لذاته يختار أيضاً لبقية الناس"[5]، وهنا يكون الكاتب قد امتلك الحرية الكاملة تجاه الفعل الكتابي كما امتلك المسؤولية تجاه هذا الفعل. 

وصحيح أنَّ المرأة المثقفة بعد نزوحها من سوريا إلى أوروبا اطَّلعت على ثقافات جديدة، فكانت أكثر قدرة على تحقيق الاندماج مع تلك المجتمعات، مع التفاوت في درجاته وعمقها، إلا أنَّها تعرَّفت عن كثب على المرأة الغربية التي كانت تتطلَّع إليها على أنَّها نموذج مثالي للمرأة التي نالت حقوقها، وأثبتت وجودها في مجتمعها، وترى الكاتبة شادية الأتاسي أنَّه "من الصعب الحديث عن اندماج قد تحقَّق، مازالت المرأة العربية تحمل معها أثقال تربيتها، في مجتمع مغلق يرزح تحت وطأة فكر غبي يريد منها أن تكون على هامش الحدث، وهناك دائماً استثناء. في بلادنا مازلنا نفتقر إلى الحد الأدنى لمفهوم الحرية، الرجال والنساء على حد سواء. نحن لا نملك حتى حرية الحديث عن القضايا التي تشكِّل عصب الحياة اليومية، مثل الفساد والغلاء وانقطاع التيار الكهربائي! فكيف الحديث عن القضايا الكبرى مثل حرية الرأي والعدالة والسلطة!"، ومن هذا الكلام يبدو لنا أنَّ المخزون الكبير من القهر والخوف ما زال يتحكَّم بمنظومة المرأة المثقفة الفكرية على الرغم من تهيئة جميع الظروف التي تساعدها على الخروج من شرنقة ما تمَّ توريثها إياه، ولعلَّ التأرجح بين مرجعيتها الثقافية وبين ثقافة جديدة عليها بكلِّ معنى الكلمة جعلها تقع في إشكالية هوياتية، خاصة أنَّها بدأت -كما تذهب إلى ذلك الأتاسي- بالمقارنة بين تلك الثقافات المتباينة تقول: "المجتمع الأوروبي، وصل إلى حالة من الرفاه والترف الفكري، تبدو الحرية الجنسية والمساكنة والمثلية، مشروعة ومن المسلَّمات. في حين مازال الجدل قائماً وبإصرار، على المنصات العامة لدينا، فيما إذا كان يحقُّ للمرأة الخروج أو السفر دون مُحْرَم"، وهذا ما دفع أغلب الروائيات إلى محاولة نشر الوعي لدى المرأة السورية من خلال شخصيات روائية كنَّ في أغلب الأوقات من النساء اللواتي يعبِّرن عن واقع المرأة وما تملكه من إمكانيات للتغيير والتطوُّر، وذلك كما فعلت الكاتبة منهل السراج على سبيل المثال في رواية "الوشم" حين جعلت من شخصية "لولا الأغا" الواقعية بطلة لروايتها، تقول الكاتبة "كانت رواية الوشم التي تحدثت فيها عن لولا الأغا والمآسي التي مرَّت بها من تعذيب واغتصاب وقتل زوجها أمامها تتناول معاناة المرأة اجتماعياً وسياسياً تحت مظلَّة النظام"، فصحيح أنَّ الكاتبة لم تكن على ارتباط بالحركات النسوية في أوروبا، إلا أنَّ مساحة الحرية التي نالتها في أوروبا جعلتها أكثر جرأة على طرح قضية المرأة والظلم الذي يلحق بها بدون خوف من الرقابة التي منعت نشر روايتها "كما ينبغي لنهر" التي تناولت فيها الكاتبة وببطولة نسائية أيضاً "فَطْمة" أحداث حماة في الثمانينات بطريقة رمزية لتفضح مجازر النظام المجرم.

***

وبما أنَّ الخروج القسري من سوريا والاندثار في أصقاع العالم كان مصير السوريين أغلبهم، فقد استطاع البعض أن يحقق التوازنات النفسية والعاطفية مع البلد الجديد الذي اختار أن يكون منفى له، والبعض الآخر ظلَّ يعاني من آلام الاغتراب والحنين منغمساً في سلسلة طويلة من الذكريات المحفورة في عمق الأرواح، ولأنَّنا نتحدَّث عن روائيات سوريات هاجرن إلى أوروبا فإننا سنتحدث عن متلازمة الحنين إلى الوطن التي تجسَّدت واضحة في طبيعة حياة الكاتبات المهاجرات وفي موضوعات كتابتهنَّ،  إذ تنقسم أرواحهنَّ إلى روحٍ تبقى عالقة في شباك الوطن تراقب بقلب متحسِّر وإرادة عاجزة ما يحدث في الوطن من خراب ودمار، وروحٍ تطوف في بلد كلُّ ما فيه جديد؛ العادات التقاليد، الوجوه، المشاعر، اللغة، المناخ...، فتنهكها المفارقات التي تبدأ ولا تنتهي، لتتحوَّل صورة الوطن التي كانت مفعمة بالألوان إلى صورة كالحة تغيب فيها تفاصيل الفرح والحياة، تقول الكاتبة شادية الأتاسي: في كتاباتي "أبحث عن ذاتي في بلد أحاول أن أنتمي إليه، أجعل من نفسي موضوعاً للتجربة والبحث. كيف أواجه تحدي حياة وثقافة ولغة مختلفة؟ كيف يمكنني تجاوز مشكلة الاختلاف؟  ثم هل يمكن تجاهل مسألة الحنين؟ كيف أكون موضوعية أمام مدينة تبهرني بجمالها، وأنا أسيرة قوانينها، قد لا أنصفها، حين أعتبرها محنة، محنة تكشف عن العوز الأبدي الذي يلازم الغريب الذي انتقل الى فضاء غير فضائه"، هكذا تصبح الكاتبات بما يعانينه من آلام الحنين والاغتراب موضوعاً لكتاباتهنَّ، يسقطن ما يعتلج في أنفسهنَّ على شخصيات متخيلة، ويحاولن التعمُّق في مشكلة باتت تمسُّ حياة السوريين الذين تفصلهم عن بلادهم مساحات جغرافية هائلة في كلِّ محطة منها تنبت الذكريات كشجرة وارفة تستظلُّ أرواحهم التي أنهكها الاغتراب في فيئها، لذلك كانت النوستالجيا هي المحور الذي دارت حوله رواية يارا وهبي (وشمس أطلَّت على ديارنا الغريبة) حيث سردت قصص اللاجئين الذين حطَّت رحالهم في ألمانيا، وركَّزت على المشكلات التي تسبَّب بها الحنين أولاً واختلاف الثقافات ثانياً على حياتهم الجديدة في بلد الاغتراب، وهي إن عبَّرت عن ذلك فإنَّما تعبِّر عن تجربتها الخاصة في الاغتراب ومعاناتها من الشوق والحنين للوطن.

إنَّ الكتابة -من دون شك- مسؤولية ينبغي على الكاتب أن يتحمَّلها بوعي تام ومطلق، لأنَّه ينتمي وجودياً إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ومن أحد مهامه أن ينقل واقع هذا المجتمع، فوجهة نظر الكاتب التي يقدِّمها في رواياته ليست تعبيراً عن ذاتية بحتة وحسب، بل هي مهمة يتفرَّد بحملها المثقفون والكتَّاب نيابة عن بقية الأفراد الذين يتبنون وجهة النظر ذاتها، الكتابة الروائية هي رؤية العالم التي يخلقها الكاتب ليحقق من خلالها ما لم يستطع تحقيقه على أرض الواقع، هي الهروب من مواجهة  الذات المحمَّلة بالعذابات والانكسارات رغبة في إعادة بنيتها من خلال الفعل الحقيقي الذي يتجلَّى بالاستمرار في ممارسة الفعل الثقافي الإبداعي الذي قدَّم رؤى مختلفة انطلاقاً من اختلاف علاقة الذات الإبداعية مع نفسها ومع العالم من حولها.


[1] فاطمة عبود، مقابلة خاصة مع الكاتبة شادية الأتاسي.
[2] هايل علي المذابي، المصعد في نقد المسرح (عمان: دروب ثقافية للنشر والتوزيع، 2019م)، ص68.
[3] فاطمة عبود، مقابلة خاصة مع الكاتبة منهل السراج.
[4] فاطمة عبود، مقابلة خاصة مع الكاتبة يارا وهبي .
[5] جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، تر: عبد المنعم الحفني، ط1، (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1964م)، ص16.