هناك طيفٌ واسعٌ من مثقفين ومشتغلين بالشأن السياسي السوري العام، يطيبُ لهم أن يقفوا حراساً على "الديمقراطية" و"العلمانية" و"الوطنية السورية". يُدخلون في رحمتهم من شاؤوا أفواجاً، ويخرجون من رحمتهم كذلك، من ينتهك أدنى معايير العمل الديمقراطي والوطنية السورية، كما استوعبوها.
من حيث المبدأ، ليس لي مأخذ أو تحفظ مسبق على أي رأي. فالسوريون حرموا نعمة التعبير عن ذواتهم، فترة أجيال متعاقبة من أعمارهم، ولدهر طويل. وقد استفاقوا ـ بعد الثورة السورية عام 2011 ـ فألفوا حالهم، وقد ضُلِّلوا بالفكر الإيديولوجي القومي الشوفيني، وسكروا من حُمَيَّا ثقافة فاشية يسارية ودينية وقومية، مرجوعة إلى أنظمة حاكمة ونخب وأحزاب معارضة، كانت تضحك عليهم حقيقة، وتسخر منهم ومن وجودهم ومستقبلهم. وقد عاشت بين ظهرانيهم طوال ثلاثة أرباع قرن مضى تقريباً. ثم صحَوا فجأة من سكرتهم الطويلة، على واقعٍ أقلُّ ما يقال فيه؛ أن كل معطياته ومفرداته المتاحة أمامهم، لا تخالف ما تعلموه وما آمنوا به، خلال تلك العقود الطويلة فحسب، وإنما الأصدق أنها تتضادُّ معه تضاداً شاملاً، بالمفردات التفصيلية وبالبنية المجتمعية والرؤيا الكلية في إدارة صراعاتهم، وهم يخطون نحو المستقبل.
العطش إلى التعبير حرية مكفولة وحق للجميع. ومن يقف حاجزاً أمام آراء الناس فيما يفكرون وما يرغبون في التعبير عنه، إنما يلعب دور عنصر مخابرات نظام الأسد، خلال نصف القرن الماضي، الذي كان يحاسب الناس على النوايا، ويقمعهم على الأحلام، ويأخذ زيْداً بجريرة عُبيد، ولطالما شرع شرعةً باتت واقعاً يومياً معاشاً ومألوفاً، بأن كلَّ وازِرة تَزِرُ وِزْرَ الأخرى، طالما أنها حيطة واجبة لحماية الوطن والدولة وهيبتها، من زاوية تفسيره. وما إلى ذلك من هذا اللغو الذي يتندر السوريون عليه يومياً، بعشرات النكت والقصص، كلما استرجعوه أو ذكروه. وهم الذين لم يبارحوه ولم ينسَوه أصلاً حتى اليوم.
إذن حرية الرأي والتعبير، ليست حقاً مقدساً للجميع فحسب، بل هو حق يرتقي إلى تخوم القداسة التي تُخفض من سقف أي حق آخر. بل إن حرية التعبير تبقى حقاً مقدساً حتى في حالات "الهبلنة" وفرط الضلال، طالما كانت مجرد تعبير إنساني غير مؤذٍ ولا يُحَمِّلُ المجتمع ضرراً ولا تبعة مكلفة. فحتى من لا خبرة له، ومن لا يُعَدُّ مخولاً أو صاحب اختصاص، هو بكل المعايير القيمية صاحبُ رأي. وحتى ضعاف العقول ومحدودي التفكير لهم رأيهم الذي يجب احترامه.
أما "الإغراض" في الرأي فهو مكمن خطر عام، لا على أصحابه فحسب، بل على الوطن والوطنية. فهنالك إعادة تدوير لمرحلة من عمر سوريا، لا يقلُّ عمرها عن نصف قرن، تُدَسُّ فيها أخلاطٌ من العسل والسموم، ووصفات الاشتراطات التي لا تخرج خارج ماكينة التفكير الشمولي، المؤسس بنيوياً على مبدأ: كل من يفعل كذا، أو يذكر كذا، أو يستعمل مصطلح كذا، أو يدنو بنقده وشكواه من كذا، فهو في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً.
يعتبر بعض هؤلاء، أن الشعب السوري، أو العرب الذين يعدون تقريباً 80% منه، مجرد "مُكَوِّن". ولا مشاحة في الألفاظ بعد فهم المعاني، إن أردنا أن نحسن الظن بلغة الخطاب هذه. وأن "السُّنة" الذين يعدون، في أخفض التقديرات المحتملة، أكثر من 75% منه، هم "طائفة" من الطوائف، في منفسح متعدد الطوائف. حسناً، ومرة أخرى، لا تثريب في ذلك. إذا ما أردنا أن نتسامح، وألا ندقق من حيث الشكل، في كثير من فيض المصطلحات التي بدأت تأخذ مشروعيتها في السوق السياسي العام، (الفاسدة حتى كتعبيرات علمية وصفاً)، طالما كانت النوايا جميعها تهدف للوصول إلى فكرة موحِدة، وإلى هدف أصيل ونبيل، يصنع مستقبلاً سورياً مجيداً وجديداً. ويحقق واحداً من أهداف حرية الشعب السوري، وصولاً إلى حلم الديمقراطية المنشود، والذي يكفل العدالة للجميع. لا افتئاتاً في مطلب الديمقراطية والعدالة، ولا اجتراءً ولا تغولاً ولا ابتلاعاً، أو هضماً لمكون قومي أو مذهب ديني أو تقليد ثقافي، يحرص بعض السوريين على التمسك به وإحيائه.
وقد يكون عادياً، في أجواء تفتقر إلى التسامح، أن يعدَّ المرءُ التلاعبَ بمصطلحاتِ كثيرٍ من الخطاب السياسي السائد، نوعاً من الرجع المرافق والمُسَوِّق للمظلوميات. وطالما اتفق السوريون على التسامح فيه، وطيّ الرأي والنظر في فجوات بعض ذلك الخطاب، التي اعتادت خلال عقود من الزمن على خطاب سياسي لا مرجعية له، وعلى أن عواهن بعض القول، مشروعةٌ فيها لمحاتُ الغَضَبيّة التي لا تفسد للودّ قضية، إذا تحصنت بنوايا طيبة.
مثلاً، يسمي كثيرٌ من أهل ذلك الخطاب "سكان الجزيرة"، ومحافظاتها الثلاث، بـ "البعثيين"، أو "حلفاء أسيادهم البعثيين". ويسمي سكان سوريا الداخلية، بمحافظاتها المختلفة، بحاضنة الإخوان وداعش والنصرة. مع احتفاظهم بحقّ أن يزعموا تسلسل أنسابهم الجينية وأحماضهم النووية الوراثية في هذه البلاد، منذ عهد الحثيين وسومر وآشور وبابل.
وكذلك حق التلاعب بأسماء المدن والقرى، وكل المواضع التي احتفظت بمسمياتها منذ آلاف الأعوام أو يزيد. ولا غروَ أننا متفقون بأن وجودهم في هذه البلاد، يرجع إلى ما قبل وجود نهر الفرات والبحر المتوسط في عمر الكوكب، دون أن يكون لسوري الحق في أن يتساءل عما تعنيه الأسماء الجديدة، ومن هي المرجعية التي أباحت وأتاحت أن تُستبدَل أسماء ربع جغرافيا الوطن بأسماء جديدة.
من يختلف مع حراس سوق هذه النزعة الأقلوية، ولو بالرأي، يُعدّ كافراً بالوطن والوطنية. وعميلاً للعثمانية الجديدة. ومن يبدي رأياً في أي جزء من هذا التنميط الاجترائي في المصطلح السياسي، فهو يتحرك ويشتغل لصالح دوائر مشبوهة، تُدار من قطر وبن زايد وبن سلمان. فالوطنية باتت لها محددات راسخة، تشبه التابو/ المحرمَ الاقتراب منها: أهم محدداتها أن توافقه على الاستقواء بالخارج الذي يدعمه سياسياً ومالياً ولوجستياً وعسكرياً. وأن توافق على كل خطابه، تحت طائلة حِزَمٍ ورُزَمٍ من معرات الخيانة والإقصاء، وتهم الشوفينية والفاشية والعنصرية، التي باتت حقاً مشروعاً له وحده أن يمارسها ـ وهو يمارسها منذ سنوات على أية حال ـ ويعدُّ الدعوة إلى الوطنية السورية الجامعة ضعفاً وانكساراً، والتعاون مع نظام الأسد المجرم، مجرد تكتيكات سياسية لحظية فرضتها المرحلة، ولا يجب التوقف عندها. والاتّجار بنفط المنطقة تحت حماية الانتدابات الخارجية وقواها العسكرية الحامية والمطوقة والضامنة، إدارة اقتصاد، وحرق الزروع على مدار ثلاث سنوات لابتزاز أرزاق الناس، لفرض أسعار مناسبة على محاصيلهم، وتهميش الناس وقتلهم واعتقالهم بالجملة، وتهجيرهم ـ بل وحتى الاتّجار بأطفالهم ـ هي حملات إعلامية مغرضة وسيئة، ولا تصبُّ في صالح الحوارات والتفاهمات، وغير ذلك.
ما خطط له الأسد منذ اليوم الأول لانقلابه عام 1970، وما تلا بعد ذلك من تفاصيل، لم تكن لتختلف مشروعاً، عما يُبَيَّت ويخطط للمنطقة اليوم. وما يخطط وينسج بعض القوم. حتى في التفاصيل الدقيقة الضافية في مشروعه المخطط سلفاً، والذي انتهى بكارثة تدمير سوريا؛ وطناً وشعباً واقتصاداً وتاريخاً. وسياسات الاستقواء بالاحتلالات لا تحتاج إلى ذكاء وحصافة، لكي يُقَدِّر أيُّ أمرئ أين سوف تنتهي، وإلامَ سوف تُفضي في المآلات الأخيرة. فقط قد يكون الاختلاف في موقتات الكوارث، وروزنامة الخراب العام والشامل. أما المغامرون بمصير الوطن ومصير شعوب المنطقة، فما أسهل أن يبرروا وأن يتنصلوا، كما استسهل وتنصل من قبلهم. وأن يؤكدوا دائماً، بأنهم لا يتحملون مسؤولية كل هذا الذي حدث لاحقاً؛ لا جزءاً ولا كُلاً. فدعوى النوايا، واستبدال الخطاب حسبما تدعو الضرورة والمصلحة، لن تؤسس وطناً جامعاً، ولن تصنع مستقبلاً، أو منفذ نجاة ينقذ من كل هذا التدهور الذي نشهد اليوم.