يومَ كنّا أطفالاً، كنا نسمع نكتة متداولة من عديد النكات الشائعة؛ نكتة تقول: إن جحا قد طلب منه ابنُه أن يخطب له بنت الملك. فوافق جحا على مشروع ابنه، وفي صباح اليوم التالي خرج هو وزوجته وابنه متجهين إلى قصر الملك، ليخطب ابنته لابنه. في الطريق سأله الناس عن وجهته، فأجابهم دون لبس أو تكتم عن قصده لقصر الملك، ودون لبسٍ أيضاً اعترف على ملأ من الناس بنيته خطبة ابنة الملك لابنه. مضيفاً هذه الملاحظة: حتى الآن نصف الأطراف المعنية بالموضوع موافقة على مسألة هذه الخطوبة؛ أنا وابني وزوجتي. بقي أن نعلم رأي النصف الآخر: الملك وابنته وزوجته.
الواقع أن هذه النكتة لم تعد نكتة بعد اليوم. فقد أثبتت الوقائع أنها تقترب من أن تكون ممارسة سياسية، تشارك فيها دولٌ عظمى وإقليمية ومتوسطة. منها مثلاً روسيا وإيران ونيجيريا والصين وكوريا الشمالية ولبنان والإمارات وباكستان وعُمان. وهي النصف الأول الموافق على خطبة ابنة الملك. أو هي بالأحرى، الأطراف المتحمسة والساعية لعودة اللاجئين، مقابل رفض واستهانة تصل إلى حدود السخرية الممتزجة بالدهشة، من قبل النصف الآخر، المعني بالمسألة أساساً، وهي ـ أو معظمها ـ الدول المضيفة للاجئين، إضافة إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وتركيا ومعظم دول الخليج والأردن. وفضلاً، وقبلاً عن كل هؤلاء؛ اللاجئون أنفسهم، أصحاب العلاقة في الموضوع.. ودعْكَ من نظام الأسد الذي عَوَّدَنا قبل هذه النكتة بزمن طويل، على أنه نظام غير مسؤول عن تصرفاته، وعن كثير من المسالك الغرائبية التي لا تستقيم وفق أي حساب منطقي، ولا عن كل سلوك غريب مفاجئ وشاذ وغير متوقع.
تَسَجَّلَ النظام الأسدي الذي لا يزال يعدُ نفسَه حاكماً في دمشق وما حولها ـ مع شكنا الكبير بذلك ـ أو سجَّلَ نفسه كأول نظام في تاريخ البشرية قاطبة، يقدم على تهجير نصف شعبه. وهو ما يزال مثابراً على السلوك نفسه، المستهدِف للنصف الآخر، الذي لمّا يزلْ يرزح تحت تحويطة سيطرته. المنظمات الدولية صنّفت سوريا بأنها البلد الذي يشكل فيه اللاجئون ما نسبته 8% من نسبة اللاجئين حول العالم. (وهذه الأرقام مسجلة قبل سنتين). وهي نسبة باتت تقارب عُشْر سكان البشرية الذين هَجَروا أرضهم نتيجة الصراعات والحروب الأهلية، والتي كان من أبرز نتائجها على المستوى السوري، الاعتقال
لم يعرف العالم قط حاكماً أقدم على تهجير نصف شعبه قبل بشار الأسد. وفي ظروف مواتية أو مشابهة، لو أتيح له أن يهجره كله لفعل بلا تردد
والخطف والتعذيب في غياب تام لأي قانون سوى قوانين الغاب. فضلاً عن القتل الفردي والجماعي، بما في ذلك استخدام أسلحة حربية محظورة ـ كالأسلحة الكيماوية ـ لإبادة المدنيين، وتدهور الحاجات الأساسية الغذائية للسكان، فضلاً عن دمار البنية التحتية وتعطلها الكامل. وكذلك بسبب الفقر وانعدام الأمن.
المدهش في الذاكرة والمشهد العام، أن كلَّ لاجئي العالم اليوم، وعبر التاريخ الماضي، كانوا يفرون من أعداء خارجيين، أو من قوى متسلطة ثائرة على الدولة والمجتمع، ولم يعرف العالم قط حاكماً أقدم على تهجير نصف شعبه قبل بشار الأسد. وفي ظروف مواتية أو مشابهة، لو أتيح له أن يهجره كله لفعل بلا تردد.
القيادة الروسية الحالية، وهي ربما كانت الساعي الأول، والمتحمس الأول لجر النظام إلى هذا المؤتمر، وإلى الدفع بكل ما لديها من نفوذ، لا لنجاحه نسبياً، (وهو أمرٌ لا يتوقعه أحد)، ولا لمداراة خيبتها السياسية والعسكرية وغرقها في الوحل السوري، وليس محاولة يائسة منها لتخييط الجرح السوري على قيحه، ونزيز روائحه التي زكمت أنوف العالم أجمع، وإنما فقط لعقده وتظهيره دولياً، بحسبانه/ـها أن نجاحه/ـها المفترض إعلامياً، قد يصبُّ في صالحها. فالروس متحمسون كثيراً ليبرهنوا على أن تدخلهم في سوريا أفضى إلى إعادة الاستقرار "للدولة السورية" ـ كما يفضلون استعمال المصطلحات ـ ويثبتوا للعالم كله نهاية مساعيهم التي تكللت بالنجاح؛ فها هي سوريا قد استقرت وسكنت فيها المعارك، وتوشك أن تخلو من "الإرهاب والإرهابيين"، وها هو نظامها "الشرعي الوحيد"، ما يزال حياً يرزق، كما تؤكد على ذلك كل شاشات التلفزة والصور الصحفية المنقولة عنه؛ الصور الصادقة والمفبركة، والمُحَسَّنَة والمُقَبَّحَة، والأخبار المبشِّرة والمستبشرة المنقولة عنه، صحيحُها وكاذبُها، ومسْندُها وضعيفها وموضوعها.
أحسبُ تظنناً بأن المؤتمر الذي يتوقع الروس، ومعهم نظام الأسد، بأنه لن يحصد إلا الفشل والسخرية، لا يهدف إلى افتعال علاقات عامة تُحَسِّن، ولو قليلاً، من صورة القيادة الروسية فحسب، بل لعل له أهدافاً أخرى غير منظورة، وهي هذه المرة تُصَوِّب عيناً خفية على انتخابات صيف عام 2021 الرئاسية، والتي اشترط المجتمع الدولي لموافقته عليها، عودة اللاجئين إلى بلادهم، شرطاً مُلزماً قبل التفكير في إجراء انتخابات رئاسية، والذهاب شوطاً في هذه الخطوة. فالمؤتمر سوف يربك أرقام المهجرين والنازحين و"العائدين"، ولو لبعض الوقت، فإذا نجحت حملات العلاقات العامة، المصحوبة بحملات أكاذيب إعلامية ذات طابع مُشَوِّش، تؤكد بأن "العائدين" قد تجاوزوا عشرات الآلاف إلى الملايين، وحين سيغدو شرط عودة اللاجئين قضية خلافية، لا يستطيع أحد أن يبرهن على حجمها وحقيقتها، ولا مقدار أعداد العائدين، عندئذٍ فقط سيكون متاحاً شرط إعادة ترشيح الأسد للاستحقاق الرئاسي المتوقع. خاصة وأن النظام اللبناني، الحليف للأسد ونظامه، على أتم الجاهزية والاستعداد لأية شهادة زوْر قد تطلب منه بخصوص عودة أكثر من مليون لاجئ في لبنان وحده.
بقية النكتة التي بدأت بها هذا المقال، حول جحا وابنه وخطوبة ابنة الملك، متروكة للمخيلة العامة للمتلقي السامع. في أقل تقدير، إن ابن جحا حين سيُصْدم بفشل مشروع خطبته لبنت الملك، سوف يوازي إخفاقُه نجاحَ والده جحا، بحيث ستسجل الذاكرة الشعبية له يوماً ما، ملاحظة مهمة، فيكتب في سيرته التاريخية: هذا هو جحا الذي ذهب يوماً لكي يخطب لابنه ابنة الملك، ولكن النصيب والظروف لم تسعفه. خاصة أن روسيا أعلنت أنها قد "ترصد" مبلغ مليار دولار لمشاريع إعادة الإعمار، قابلاً للزيادة إذا تطلب الأمر. ولاحظ بأنها أعلنت أنها "ترصد"، ولم تقل "دفعت أو سوف تدفع". والحياة فيها من "المجازي" أكثر مما تحفِلُ به من الواقعي والحَرْفي لفظاً.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بتلقائية ويبقى بلا جواب: لماذا تحضر نيجيريا مثلاً هذا المؤتمر، بينما تغيب عنه جمهورية أفريقيا الوسطى أو الغابون أو ساحل العاج؟ ولماذا تحضر باكستان ولا تحضره بنغلادش؟ ولماذا كوريا الشمالية وليس توأمها كوريا الجنوبية؟ ولماذا عُمان وليس جزر القمر؟ خاصة أن المُعَوَّل عليه أن يعقب المؤتمر حملة دولية واسعة لإعادة الإعمار، يشارك فيها من الدول "الأخيار والأشرار"، والجن الأزرق والملائكة الأبرار.