سيشعر أي إنسان طبيعي بالعار من موقف ألمانيا المتسرع بإيقاف تقديم المساعدات للفلسطينيين، بعد عملية طوفان الأقصى الأخيرة، فلم يبلغ مستوى التماهي الألماني بالسياسة الإسرائيلية هذا الحد أبداً رغم أن ألمانيا يعيش فيها مليونا عربي على الأقل بينهم فلسطينيون إضافة إلى خمسة ملايين مسلم، ما يمكننا من القول إن هذا الموقف الأخير إذا ما صار مرجعية في السياسة الخارجية لألمانيا فهو يعني إذكاءً لنيران الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتماثلاً بل تطابقاً مع الموقف الأميركي المنحاز تاريخياً لإسرائيل، الموقف الذي يعتبره بعضهم أحد أهم أسباب استمرار الصراع بين الطرفين، ويعد هذا الموقف الأميركي المنحاز، السبب في فشل مفاوضات السلام وتضاؤل إمكانية تأسيس دولة فلسطينية على كامل أراضي الضفة وقطاع غزة.
والحقيقة ليس الموقف الأميركي بغريب فليست إسرائيل سوى ولاية أميركية أو ولاية أوروبية زرعت بالاحتيال والدبلوماسية والحرب في جنوب بلاد الشام وشرق مصر.. فإسرائيل هي امتداد استعماري لأوروبا وقطعة متبقية من أرض العالم البريطاني الاستعماري الذي لم تكن الشمس تغرب عنه، وبديل عن الاستعمار الكلاسيكي يضمن استمرار نهبه للعالم العربي بطرق حديثة.. فإن كلاً من فلسطين وسوريا والعراق.. هي بلدان ما زالت مستعمَرة، وفقاً للنمط الجديد من الاستعمار الذي ولد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإسرائيل ليست كياناً طبيعياً قائماً بذاته ولا يمكن أن تصبح كذلك في يوم من الأيام... إنها قاعدة ضخمة لإدارة عمليات متقدمة لأميركا وأوروبا في الشرق الأوسط، تديران بواسطتها حربهما مع العالم العربي، وليس إعلان القيادة العسكرية الأميركية عن توجه حاملة طائرات أميركية إلى شواطئ فلسطين في اليوم الثاني لعملية طوفان الأقصى، ومسارعة وزير الخارجية الأميركي لزيارة تل أبيب، سوى دليل على ما تقدم.
نتيجة احتلال إسرائيل وتحولها إلى قوة عسكرية تهدد إقليمي الشام ومصر أولاً ثم منطقة الخليج فرضت أميركا نفسها حامية للأنظمة العربية بشرط استئثارها بالبترول العربي والثروات الباطنية الأخرى
إسرائيل باعتبارها "القاعدة" الأميركية الأضخم في الشرق الأوسط استخدمتها المصالح الأميركية والأوروبية لافتعال مشكلات دينية عبر احتلالها لأماكن مقدسة عند المسلمين (المسجد الاقصى وقبة الصخرة) وتأجيج الصراع على هذا الأساس بحيث تصبح السياسة والثقافة لدى الجمهور العربي المسلم متعلقة إلى حد كبير بمسألة الصراع الديني مع اليهودية الصهيونية بل مع المسيحية الصهيونية، أي أن الدين يصبح أولاً والسياسة والثقافة تالياً، وهو ما يمكّن أميركا ومؤسساتها الضخمة من توجيه سياسات الأنظمة العربية لتحقيق هدفين استراتيجيين متكاملين:
الأول: نتيجة احتلال إسرائيل وتحولها إلى قوة عسكرية تهدد إقليمي الشام ومصر أولاً ثم منطقة الخليج فرضت أميركا نفسها حامية للأنظمة العربية بشرط استئثارها بالبترول العربي والثروات الباطنية الأخرى عبر النهب اللصوصي، إذ تتم سرقة البترول والثروات العربية بأبخس الأسعار، ومن ثم تشترط على الأنظمة العربية وضع أموالها "المقبوضة" كثمن للبترول في بنوك أميركا وأوروبا. وهي بذلك حقيقة تقبض على "رؤوس" هذه الأنظمة بقبضها على رؤوس أموالها..
الثاني: وهو لا يقل خطورة عن تأسيس واحتلال إسرائيل لفلسطين، ويتمثل بإفساح المجال لولادة النظام العربي الانقلابي العسكري الأمني في سوريا والعراق ومصر وحتى الجزائر والسودان.. بحجة مواجهة إسرائيل ومعركة تحرير فلسطين، والحقيقة فإن الدور الأساسي لهذا النظام العربي كان رعاية تخليف الشعوب العربية وكبح تقدمها الطبيعي، إذ شنت هذه الأنظمة حروباً متعددة على الشعوب العربية كيما تبقى في طورها الزراعي وما قبل الزراعي فلا تتقدم إلى التصنيع، ولتبقى مجتمعات استيراد واستهلاك فلا تتحول إلى الإنتاج الكبير والتصدير، هذه الحروب شنتها الأنظمة العربية على جميع الجبهات من الزراعة إلى التعليم والعسكرة والثقافة والصحة (بسبب الفساد والإهمال المنظم اشترى رجال أعمال إسرائيليون سلسلة مشافٍ مصرية بواسطة شركة إماراتية سنة 2021 ).
تستخدم الأنظمة العربية في حروبها على شعوبها أجهزة الأمن والفساد المنظم وعصابات المخدرات وجيش من الدعاة ورجال الدين لترسيخ قيم القرون الوسطى وعاداته باسم الدين، كذلك تستخدم فيها مناهج تربوية وجامعات ومثقفين وفنانين دعاة للغرب وقيمه وأنماطه السلوكية باسم التنوير والعلمانية.. الخ
بشار الأسد ومعلمه خامنئي هما أهم لإسرائيل من نتنياهو نفسه، تبعاً للدور اللذين يلعبانه في نطاق الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية في تدمير المنطقة وإضعافها
وبالعودة إلى العلاقة العضوية ما بين إسرائيل والأنظمة العربية فإن كليهما يشكلان حالة متكاملة متناغمة، ومثال على هذا التناغم أن إسرائيل بعد ثلاثة أيام من طوفان الأقصى وجهت تحذيرا للنظام السوري باستهداف رئيسه بشار الأسد شخصياً وقيادات النظام من الدرجة الأولى في حال تم إطلاق قذائف من الجولان أو حتى من جنوبي لبنان، وعلى الرغم من هذا التحذير الإسرائيلي غير المسبوق، فقد أطلقت قذائف من المنطقتين باتجاه الأراضي المحتلة فما كان من بعض القنوات العربية إلا أن أوردت أخباراً عن القصف وعن الرد الإسرائيلي عليه، لكن إسرائيل لم ولن تقصف أي مقرٍ قيادي للنظام الأسدي، حتى لو بدا ذلك للسوريين والعرب كلهم تراجعاً عن الوعيد الإسرائيلي لبشار ونظامه، فالجيش الإسرائيلي قصف طوال سنوات مواقعَ للجيش السوري والميليشيات الإيرانية، من دون أن يقترب من أي مكان لقادة النظام.
ولا شك أن بشار الأسد ومعلمه خامنئي هما أهم لإسرائيل من نتنياهو نفسه، تبعاً للدور اللذين يلعبانه في نطاق الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية في تدمير المنطقة وإضعافها بما يناسب استمرار إسرائيل وبقاءها كوسيلة لبقاء النهب الأميركي لثروات المنطقة، بترولاً وأموالاً مهربة وعقولاً مهجّرة بقوة الفساد، وأيدي عاملة طامحة لحياة كريمة، هاربة من القمع والاستبداد.