الأدب مرآة للمجتمع، يصف مشاكله ويعكس قضاياه، قد يُعنى بطرح الحلول وقد يكتفي بتوصيف المشاكل وإبرازها. ويحدث أحيانًا أن يتناول الأدب بعض القضايا بالترميز والإيحاء لأسباب سياسية أو اجتماعية، ونادرًا ما يتجاهل قضية ما وإن حدث ذلك فهذه ظاهرة جديرة بالدراسة.
في الشأن السوري، هناك قضايا كثيرة لم تحصل على حقها بالتناول الأدبي، من بينها قضية "الحَيار"، وإذا صدف ووردت هذه القضية في الأدب السوري فسنجدها على هامش الأحداث. ومن خلال بحثٍ محدود، لم أعثر على عمل أدبي يتخذ من "الحيار" محورًا رئيسًا لأحداثه. ففي رواية "خربة الشيخ أحمد" للروائي السوري عيسى الشيخ حسن على سبيل المثال، يرد ذكر "الحيار" بصورة هامشية كبقية الأعمال الأدبية.
مشاكل المجتمع الكامنة
بعد موجات اللجوء التي أعقبت الربيع العربي، عكست وسائل التواصل الاجتماعي العديد من المشاكل الاجتماعية في أوساط اللاجئين، ولعل أبرزها ظاهرة الطلاق وما يترتّب عليها من تبعات وآثار سلبية في مقدمتها سحب الأطفال من الزوجين. وقد يعيدنا البحث والتنقيب في هذه الظاهرة إلى "الحيار" وتجلياته المختلفة في العرف والقانون والعادات السائدة داخل المجتمعات التي يغلب عليها الطابع العشائري بصورة خاصة.
إن الصورة النمطية المرتبطة بتجريم ونبذ ظاهرة الطلاق في مجتمعاتنا، يجعل الزوجين يستمران في الزواج مهما تراكمت الأضرار المترتبة على ذلك الاستمرار، كما أن القانون السوري يجعل من قضايا الطلاق استنزافًا للزوجين، ويمنح الرجل إمكانية إخضاع الزوجة والتعدي عليها، بل وقتلها أحيانًا بذريعة ما يطلق عليها "جرائم الشرف" المدانة في الشرائع والأديان والأعراف الإنسانية، والمباحة في القوانين والعادات البالية.
كل هذه الأسباب وغيرها؛ دفعت المرأة الخارجة من مجتمع ضاغط إلى مجتمعات متطورة اجتماعيًا واقتصاديًا وتمتلك فضاءً مفتوحًا للحرية، تطالب بالطلاق.
ظاهرة زواج "الحيار"
ظاهرة زواج "الحيار" قديمة في المجتمعات القبلية ولعلها موجودة بصورة أو أخرى في أغلب المجتمعات العربية تحت أسماء وأشكال مختلفة. ورغم أن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية تجرم صيغة الإكراه التي يتضمنها هذا الزواج إلا أنها ما تزال موجودة في مجتمعاتنا.
ويمكن تعريف هذه الظاهرة نظرياً بأنها إجبار الفتاة -أو الشاب في بعض الحالات- على الزواج من أبناء عمومته، وعملياً تكون الفتاة هي المجبرة الرئيسة على الزواج، لأن الشاب بإمكانه التنصل من وعود الزواج من الفتاة المجبرة على الارتباط به في حال أراد ذلك.
وأحيانًا يحدد الأب عروسًا لابنه من بنات أخيه منذ طفولتهما، وبذلك تعتبر الفتاة "الطفلة" محيرة لابن عمها؛ ولا يمكن لأحد أن يتقدم لطلب يدها مهما بلغت من العمر، كما يمكن أن تؤخذ لتعيش في بيت عمها (أهل العريس) حتى تكبر. وهذا الشكل من الحيار له أصل في الفقه الإسلامي، فهناك اتفاق على "أن عقد الزواج على الصغيرة جائز صحيح ولو كان ذلك قبل بلوغها"، كما يجوز "تزويج الأب لابنته دون رضاها قبل البلوغ"، وفق ما ورد في أحكام فقهية أخرى.
ويحدث الحيار أحيانًا لأغراض أخرى غير الزواج، مثل الخلافات بين الأقارب؛ حيث يمثّل الحيار في هذه الحالة انتقامًا شخصيًا، وقد يصل الأمر إلى منع الفتاة من الزواج نهائيًا بسبب ذلك الحيار (الكيدي). وفي حالات أخرى، تكون أسباب الحيار مادية، حيث يُجبر أهل الفتاة على دفع مبلغ مالي معيّن لـ "ابن العم المحيِّر" حتى يترك ابنتهم ولا يعيق زواجها.
وسواء بالحيار أو بغيره، فإن لزواج الأقارب في المجتمعات العشائرية دوافع عديدة، منها المحافظة على ملكية الأراضي لأفراد القبيلة وعدم انتقالها لقبائل أخرى، بالإضافة إلى اعتقاد بعض القبائل بأنهم ينحدرون من أصول عريقة تمنع عليهم الاقتران والزواج من قبائل أخرى أقل مرتبة.
وتأتي الثقافة الاجتماعية أيضًا لتدعم هذا الزواج وتباركه، فنجد من بين الأمثال الشعبية السائدة: "الما ياخذ من ملته يموت بعلته"، و"ابن العم يقوّم من الحوفة"، أي أن ابن العم له الحق في إبطال زواج ابنة عمه حتى لو عُقد القران وانتقلت إلى بيت زوجها!
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن تلك الثقافة الاجتماعية لا تقتصر فقط على المجتمعات العشائرية، وإنما تنتشر في مجتمعات كبرى المدن السورية، وإن كانت خارج مسمى "الحيار"، كما سيمر معنا.
الحيار في الأدب
رفض أهل الشاعر السوري نزار قباني تزويج أخته لمتقدم كانت تحبه، وكانت هناك محاولات لإجبارها على الزواج بآخر، ما دفعها للانتحار. تلك الحادثة كانت أحد أهم الدوافع التي جعلت من المرأة محورًا أساسيًا في شعر نزار قباني الذي قال: "أختي انتحرت لأنها أحبت وأرادت أن تتزوج ممن تحب، فمنعتها أسرتي". هذا المنع الذي جاء وفقًا لأسباب عائلية قد يختلف عن ظاهرة الحيار في الشكل ولكنه يتشابه معها في المضمون.
وللشاعر السوري الشعبي عمر الفرا قصيدة مشهورة (من وحي الواقع) بعنوان "حمدة"، وهو اسم فتاة أقدمت على الانتحار حين أجبرها أهلها على الزواج من ابن عمها.
الحيار في الدراما
ولا تتوقف ونتائج الحيار على انتحار المحيّرة، بل قد يتخذ الصراع شكلاً بالغ التعقيد. ففي المجتمعات القبلية التي تسود فيها ظاهرة الحيار، هناك آداب وعادات لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن إكمال عملية الزواج بدون رضى ابن العم "المحير". وإذا أصر أهل الفتاة على تزويجها رغم حيار ابن عمها، فقد تصل المسألة إلى قتل الشخص الذي يرغب بالزواج منها، لأنه لم يرضخ لتحذيرات أولاد عمومتها.
مثل هذه الحالة نجدها في مسلسل "الغريب والنهر"، من تأليف عمار مصارع وإخراج هشام شربتجي وبطولة حاتم علي. حيث تنتهي قصة ذلك المسلسل بمقتل نبيل "حاتم علي" الذي غادر مدينة دمشق باتجاه إحدى قرى محافظة الرقة، والذي أصر على تحدي بعض العادات البالية لتلك القرية، معتقدًا أن دوره كمعلم في المدرسة يجب أن يكون تنويريًا للتخلص من تلك العادات.
فبعد أن وقع نبيل في غرام إحدى فتيات القرية وحاول الزواج منها، تعرض للعديد من المؤامرات التي انتهت بمقتله على يد أولاد عم خطيبته. وإذا عدنا إلى الحلقة الأولى فسنجد أن والدة نبيل قالت له قبل السفر إلى الرقة: "وين تلاقي مثل بنت خالتك متعلمة وحلوة وثوبها من ثوبنا"، ما يعني أن زواج الأقارب ليس مقتصرًا على الأرياف، بل تعداه إلى المدن أيضًا، حيث يكون هذا الزواج هو الأفضل نظرًا لتعقيدات الصراعات الطبقية وانتشار العديد من الأمراض الاجتماعية التي تعيق أي محاولة لسد الفجوة بين مكونات المجتمع.
الأدب وطبيعة تناوله لقضايا المجتمع
حظيت قضية الحيار وعادات الزواج باهتمام الصحافة نوعًا ما، لكنها لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام في الأدب، سواء في الرواية أو الشعر أو النثر... ولعل ذلك يمكن تفسيره من خلال طبيعة الأدب ذاته، فالأدب ذاتي والأديب يعبر عن معاناته التي قد تتلاقى مع معاناة كثيرين، كونه ابن مجتمعه وعلى تماس مباشر بقضاياه.
كما أن الحيار ينتشر في أوساط اجتماعية منخفضة التعليم نسبيًا، بينما ينتمي معظم الأدباء لفئات اجتماعية تُعلي شأن الثقافة والعلم. ولذلك نفسر غياب قضية الحيار –على سبيل المثال- في أدب عبد السلام العجيلي، الأديب والطبيب والسياسي الذي كان على تماس مباشر مع جميع فئات المجتمع في محافظة الرقة، على الرغم من انتشار ظاهرة الحيار فيها.