هل الحريّة، والحقوق المدنيّة، مؤامرة غربيّة على الوطن، أو الأمّة؟ ربّما لا نكون متحاملين إذا قلنا: إن مثل هذا التساؤل ربّما ينطوي على وعي قهري، إذ ينسب الحرية إلى الغرب دون سواه. وهذا وإن بدا مرضياً لغرور بعض المتشدّدين الغربيّين: من خلال غمزهم في مآل الديمقراطيّة في الشرق، والمتشدّدين في الشرق ذاته: من خلال تأكيدهم أن القيم المدنيّة هي قيم غربيّة وغريبة، إلا أن الكثيرين بالمقابل، شرقيين وغربيين، يشكّكون في مثل هذا الوعي، وفي مثل هذه النسبة الجائرة.
قد يكون الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (ت 1704) من أوائل المثقفين الغربيين الذين يُنسب إليهم الانحياز إلى الحقوق المدنيّة، فكتب في مؤلّفه (رسالة في التسامح) عن ضرورة الفصل بين السلطتين: الروحيّة والمدنيّة، ولعل مبرر ذلك الانحياز كان محاولة الفيلسوف، الحد من تأثير الصراعات الطائفيّة بين الطوائف المسيحيّة، في تلك الحقبة، إذ شكّلت تلك الصراعات خطرا على حياة الأفراد، وعلى أموالهم، ومصالحهم، ما دفع "لوك" إلى تأييد حق عامٍّ لأولئك الأفراد بغض النظر عن انتمائهم الطائفي، فانحاز إلى حريّة طبيعيّة للفرد، تؤهّل الفرد ليكون سيّداً بطبيعته، له سلطة، ومن ثمّ فقد رأى "لوك" أن تجتمع تلك السيادات، الممثّلة لمجموع إرادات تجاوزت حريّاتها الطبيعيّة لتشكّل سلطة مدنيّة، موازية للسلطة الروحيّة التي كان يديرها تحالف رجال الكنيسة مع الأمراء.
ربّما لو كنّا في زمن "لوك " لتناهى إلى سمعنا اتهامات مفادها: أنّه كان عميلا للدولة العثمانيّة على الأمّة المسيحيّة
لكن السؤال الذي لا ينبغي تجاوزه برأينا: هل كان لوك يخترع أو يبدع من العدم، أم أنه قام باستقراء الواقع الاجتماعي، فتوصّل إلى دعواه بـ: الحكومة المدنيّة؟
ربّما لو كنّا في زمن "لوك " لتناهى إلى سمعنا اتهامات مفادها: أنّه كان عميلا للدولة العثمانيّة على الأمّة المسيحيّة، لا لأن تلك التهم لها وجه من الصحّة، بل لأن مصلحة رجال الكنيسة والأمراء، في الاحتفاظ بامتيازاتهم السلطويّة، تستدعي مثل هذا الاحتمال!
في الوقت ذاته فإنّ نسبة حراكٍ واسعٍ، توجّه نحو الحريّة كـ: (ربيع الشعوب والثورات الأوروبية 1848) مثلا إلى العمالة للخارج، أو إلى أنّ تلك الشعوب كانت فارغة تماماً حتّى جاء مفكّر بعينه أو مجموعة مفكّرين لملئها بالرغبة بالتحرّر.. إنّ مثل هذين التصورين قد لا يكونان منصفَين، لا تجاه موضوع الحريّة، ولا تجاه شعوب أطاحت بالشكل القديم للدولة الإمبراطوريّة، وبنت دولا جمهوريّة.
احتاج توفر التحدي المدني، لدى الشعوب الشرقيّة، إلى بعض الوقت حتّى تمثّلت النخب هاجس العامّة، حيث تذكر كتب التاريخ أنّ حراكاً ثقافيّا وسياسيّا أفضى إلى ولادة أوّل دستور عثمانيٍّ مدني عام 1876.
غير أنّ تصوّرا مركباً عن الحقوق المدنيّة رافق تلك الأفكار، حيث لم تعد حقوقاً تشير إلى نمو مجتمعي محلّي فقط، بل تحوّل الحديث عن تلك الحقوق إلى أداة سياسيّة، تتدخّل بذريعتها دول اكتملت تجربتها الحداثيّة، كفرنسا وإنجلترا وغيرهما، في شؤون شعوب ماتزال في طور خوض التجربة، فبرز إلى المعجم السياسي مصطلحات من مثل: (الدفاع عن حقوق الأقلّيات)!.
التركيب المفاهيمي الجديد أعاد طرح السؤال عن (عمالة) أو ريادة نخب تلك الحقبة بالغة الأهمّيّة، إذ ما يزال الحديث عن شخصيّة من مثل: "مدحت باشا"، مناسبة للتنازع بين فريقين: أحدهما يترحّم على الرجل باعتباره (أبو الدستور العثماني الأوّل: 1876)، وفريق ثانٍ يرى أنّ الرجل كان عميلا لدول كانت تسعى إلى تفتيت الأمّة!
بالمقابل لعلّنا لا نكون منصفين إذا تجمّد تصوّرنا عند كون (الأقليات) و(الأكثريات) على حد سواء، فارغين من كلّ استحقاق حضاري حتى جاءت دول كفرنسا، وبريطانيا، لتمنح تلك الشعوب معنى وجودها!.
امتدّ الحديث عن الأقليّة مقابل الأكثريّة إلى سوريّا التي دخلتها قوات الأمير فيصل بن الحسين بعد نحو أسبوع من انسحاب الجيش العثماني من دمشق عام 1918، ثم دُعي فيصل عام 1919 إلى "مؤتمر باريس للسلام" الذي عقده الحلفاء المنتصرون في الحرب العالميّة الأولى، فلمس تجاهلا مبيّتاً لإرادة شعوب المنطقة، ثم عاد إلى دمشق وحفّز النخبة السياسيّة المثقّفة لعقد مؤتمر وطني، حضره ممثلون عن أقضية سوريا (الطبيعيّة وقتها) كان معظمهم ممثلين سابقين عن تلك الأقضية في "مجلس المبعوثان العثماني" ذلك المجلس الذي أقرّه الدستور العثماني عام 1876.
بحسب دراسة أجراها "معهد العالم للدراسات" 2017 بعنوان: (رشيد رضا والدستور العربي السوري لعام 1920: كيف قوّض الانتداب الفرنسي الليبرالية الإسلامية)، فقد انقسم أعضاء المؤتمر السوري الأوّل إلى تيارين: أحدهما ديمقراطي شعبي، والآخر ليبرالي. بل وناقش ذلك المؤتمر (1919-1920) أحقّيّة المرأة في الانتخاب، وكاد أن يقرّ ذلك الحق في الدستور، أي قبل فرنسا ذاتها التي لم تقر مثل هذا الحق حتى عام 1944، لولا خشية بعض الأعضاء من أن يمنح ذلك فرصة لتأليب الشارع على أعضاء المؤتمر، في الوقت الذي تكشّفت لهم أطماع الدول الاستعماريّة التي قد تحول دون استقلال البلاد السوريّة!
أفرز المؤتمر "لجنة دستوريّة" صاغت دستور 1920، وحدّد مهام الملك: (الملك محترم وغير مسؤول). والحكومة: (ملكيّة مدنيّة نيابيّة).
يبدو، بحسب الدّراسة، أن أعضاء المؤتمر كانوا واعين إلى أن استقلال البلدان في النموذج الحداثي للدولة كان مبنيّاً على النّموذج الليبرالي للدولة، الذي يؤكّد على استقلال الفرد وسيادته المدنيّة ما دفعهم إلى تأكيد القيم الليبراليّة: التسامح والمساواة، في المجتمع السوري.
وقد نتفاجأ أنّ رئيس المؤتمر، ورأس التيار الليبرالي حينذاك، الذي دافع عن برلمانيّة الحكومة، وعن سلطة المواطن ومدنيّته كان الشيخ: "محمد رشيد رضا" فلم يعتبر استقلال سوريا "تآمرا على الدّين، أو السلطة العثمانيّة" بل تحدّث، أثناء المؤتمر، عن ضرورة الفصل بين المصلحة العامّة، وبين أمور الدين التي تحكمها النصوص الشرعيّة، متماهياً، عن قصد أو دون قصد، مع انحياز "جون لوك" إلى ضرورة الفصل بين السلطتين الروحيّة والمدنيّة.
وعى الروّاد السوريون الأوائل أنّ الدّولة الحديثة هي دولة ليبراليّة بالضّرورة، قائمة على الحقوق المدنيّة، وأنّ الحريّة ليست امتيازاً لعرق دون سواه
عام 1920 اجتاحت قوات غورو دمشق، بحجّة أنه: "انتدب البلاد لتأهيل شعوبها لنيل حق الاستقلال" فدافع الجيش الوطني وقتها بقيادة وزير الحربيّة في حكومة الملك فيصل: "يوسف العظمة" عن سيادة الوطن السوري، فقضى -رحمه الله- مع جنوده شهداء، أما "رشيد رضا" فقد تمكن من الهرب إلى الأردن، ثم إلى مصر، ليُنقل عنه، بحسب دراسة صادرة عن معهد العالم للدراسات، قوله: إنّهم، أي الأوروبيين، أرسلوا رسالة مفادها أن "الحق، والعدل والحرية كانت تستهدف المسيحيين فقط"!
وبينما دعم الانتداب تقسيم سوريا إلى أقاليم: (علوي، ودرزي، وحلب، ودمشق)، بما يتناسب مع مبرّر وجود الانتداب على شعب لم يبلغ المدنيّة بعد، فقد رفض السوريون ذلك في الثورة السوريّة الكبرى (1925) التي قادها: "سلطان باشا الأطرش" لا ليطالب بالاستقلال بإقليمه، بل ليرفض التقسيم!
وعى الروّاد السوريون الأوائل أنّ الدّولة الحديثة هي دولة ليبراليّة بالضّرورة، قائمة على الحقوق المدنيّة، وأنّ الحريّة ليست امتيازاً لعرق دون سواه، وأنّها ليست إبداعاً نخبويّاً اكتشفته نخبة دون سواها، أو حضارة مميّزة فتمنحه لغيرها.. بل الحريّة استحقاق حضاري مدني يبلغه الشعب بذاته، فعقد أولئك الرّواد، مؤتمرا عامّاً انبثقت عنه لجنة دستوريّة، صاغت دستوراً يؤكّد سيادة الدولة، واستقلالها، استناداً إلى حريّة المواطن، وسيادته، وقد وعى الرّواد السوريون هذه المتوالية السياديّة، فدافعوا عنها في دستور 1920، تحمل مادتاه:
10- السوريون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.
11- الحرية الشخصية مصونة..
ليؤكّدوا ما سيقوله الثائر السوري ضد الانتداب الفرنسي: عبد الرحمن الشهبندر، بعد سنوات من الانتداب: (إنّ حضارة الشعب السوري أحرجت المنتدب الفرنسي).