المكوّن ما قبل مدني، والهويّة ما بعد حداثيّة!

2024.05.17 | 05:49 دمشق

7522222222222222222274
+A
حجم الخط
-A

قبل أشهر قليلة راسلتني -عبر الإنترنت – سيدة سوريّة من مدينة "السّلميّة" تحتاج إلى "كفيل" لدخول مدينة "منبج" السوريّة التي تحكمها سلطة أمر واقع سهّلت للسيّدة دخول منبج مع "مهرّب" لإلقاء القبض عليها وتغريمها مبلغاً ماليّاً، ثمّ أعادتها إلى مناطق سيطرة النظام مناقضة بذلك مصلحة السيدة بعبور منبج إلى الشمال السوري، ثمّ تركيا وصولا إلى أوروبّا، ولا يكاد أحد من السوريين – بغض النظر عن طوائفهم وأعراقهم- يجادل في أنّ الغاية من الوصول إلى أوروبّا هي الحصول على الحقوق المدنيّة لهم كأفراد -لا كمكوّنات!

في ثورة 2011 خرجت مدينة السلمية -والسويداء أيضاً- للتظاهر ضد نظام الأسد قبل لحاق منبج -بوقت قصير- بركب المدن السورية الثائرة ضد النظام، وظل الثوار يديرون منبج بعد انسحاب النظام منها حتى حلّت مصيبة "داعش" على الثورة والسوريين، فأعادت رسم خرائط الجغرافيا والهويات العرقية والطائفيّة، أمّا منبج فقد خاض ثوارها مقاومة شرسة -دون دعم دولي- ضد التنظيم، غير أنّ فارق القوّة التي تمتع بها التنظيم أجبرهم على الانسحاب من مدينتهم، مثخنين بجراحهم، وظل التنظيم يسيطر على منبج حتى تمكنت قوة مدمجة بين بعض ثوار منبج وبين "قوات سوريا الديمقراطية" مدعومة بالتحالف الدولي ضد داعش، من طرد التنظيم والسيطرة على المدينة، فيما ظل غالبيّة ثوار منبج -وكاتب المقال واحد منهم- مشتّتين في أصقاع الأرض.

ما بعد داعش ليس كما قبلها على أيّة حال، لكن نود العودة إلى التساؤل بشأن تلك السيدة السوريّة: ما الذي -غير بشّار الأسد الذي ننادي بإسقاطه منذ 2011 وسنظل ننادي - منع تلك السيدة من الحصول على حقوقها المدنيّة في بلدها، وجعلها تفضّل -مثل مئات آلاف السوريين - تجشّم أعباء ومخاطر عبور دول عديدة بطرق غير شرعيّة للوصول إلى أوروبّا؟

هل كانت -تلك السيّدة- تحتاج إلى الاعتراف بها كـ "مكوّن نسوي، أو إسماعيلي: نسبة إلى الطائفة الإسماعيليّة "كي تحظى بالمساواة مع الرجل الكردي في القامشلي، والعكيدي أو الشّمّري في دير الزور أو الحسكة، والتركماني في اعزاز، والسني في إدلب، والعلوي في طرطوس، والدرزي في السويداء.. في حق التنقل بحريّة، أو الحصول على فرصة عمل مثلا؟

ثمّة اليوم أربعة حكومات - من بينها حكومة النظام - يدّعي جميعها تمثيل السوريين سياسيّا، والسوريّون يصفونها بسلطات أمر واقع، ويفضّلون الهجرة إلى أوروبّا!

هل يحتاج السوريّون إلى اعتراف بعضهم ببعض كمكوّنات ما قبل مدنيّة: عرقيّة قبليّة ودينيّة، أم إلى اعتراف بعضهم ببعض كأفراد أحرار ومتساوين بغض النظر عن الهويات العرقية والطائفيّة؟

لعلّ من مكرور الكلام القول: إنّ تكوّن المجتمع المدني والدولة الحداثيّة -في الغرب- استند إلى قراءة اجتماعيّة مفادها أنّ للإنسان الفرد ثلاثة مستويات من الوجود:

طبيعي، ومدني ثم سياسي مدني؛ لا طبيعي ولا إمبراطوري، ذلك أن القراءة الأولى تتكئ أيضاً على قراءة تاريخيّة تميّز بين حِقبتين حضاريّتين: الحقبة الإمبراطوريّة، ثم الحداثيّة، وترتبط الحداثة بالمجتمع المدني وقضاياه التي تتمحور حول ما يمكن تعيينه ليشمله "العقد الاجتماعي المدني"، إذ لا قضايا مجرّدة لا يمكن تعيينها.

بعد نحو 300 سنة من الحداثة في الغرب أفرزت سيرورة الوعي المادي هناك مشكلات من بينها: التمييز العنصري بداعي التفوّق الثقافي، أو التفوّق الجيني العِرقي، وبالمقابل ظهر شعور فئات اجتماعيّة مهمّشة بالـ "لا عدالة -مساواة اجتماعيّة" فسعت تلك الفئات إلى تحسين شروط مساواتها مع غيرها عبر إعادة تموضعها في العقد الاجتماعي في صورة "هويّات ما بعد حداثية" لتعبّر -على سبيل المثال- عن المهاجرين في كندا، أو الأقليّات القومية في أوروبا، أو الفئات النسويّة والسود في أميركا.

إذن ففي هذا السياق يمكن قراءة الحركات النسوية، أو حركة "السود" مثلا، كحركات تقاوم خطاب تمييز ارتكبه "الرجل الأبيض" وصوّغ له عبر نظريّات علميّة ماديّة تُرسّخ تفوّقه كذكر أبيض البشرة، وفي هذا السياق أيضاً يمكن فهم جملة من نحو "خيبة الأمل من قدرة الحداثة من تحقيق العدالة الاجتماعيّة"!

بالمقابل لعلّه لم يحدث -حتى قبل تمدّننا الحديث- أنّ مجتمعاتنا كانت قد تشظّت إلى هذا النحو "المكوّناتي" بعد مئات السنين من تقاليد العيش المشترك، لكن دولا كفرنسا وبريطانيا لم تعترف -قبل مئة عام- بأهلية مجتمعاتنا لإنتاج مجتمع مدني، فانتدبتنا تلك الدول، ولعلّ أحدا منّا نحن السوريين لا ينازع في أنّ تاريخنا الحديث والمعاصر لا يذكر أنّنا مارسنا الحداثة والحقوق المدنيّة فضلاً عن السّياسيّة -حتى على النموذج الذي تركته لنا فرنسا- إلّا خلال مدّة 13 سنة انقضت ما بين انسحاب فرنسا عام 1946 حتى إعلان الأحكام العرفيّة سنة 1963، ثمّ ثرنا على النظام عام 2011 لنيل "الحريّة والكرامة"، وسواء أفشلنا -كسوريين لم يكن وعيهم المدني راسخاً- أم جرى إفشالنا باستدراج الإرهاب وتركنا بين فكّي "الإرهاب – النظام"، فإنّ ما بعد داعش ليس كما قبلها على أيّة حال، وثمّة اليوم أربعة حكومات - من بينها حكومة النظام - يدّعي جميعها تمثيل السوريين سياسيّا، والسوريّون يصفونها بسلطات أمر واقع، ويفضّلون الهجرة إلى أوروبّا!

يطالب بعضنا اليوم بالعلمانيّة كأنه اخترعها البارحة، ويطالب -في الوقت ذاته - بحقوق مكوّنه -ما قبل المدني- بوصفه نتاج مظلوميّة ما بعد حداثيّة!

في غيابنا -المدني والسياسي- نتساءل عن "الحقبة الحضاريّة" التي يجري خلالها تفسير أو تأويل حريّتنا: هل نحن بالفعل مجتمع ما بعد حداثي، أحدث فيه الوعي المادي مشكلات حملت أكثريات قوميّة منّا على ممارسة خطاب تهميش بحق أقليّات قوميّة، أو دفع ذلك الوعي المادي الذكر إلى ممارسة خطاب تفوّق ذكوري ضد المرأة!؟

هل كنّا حداثيين عِلمانيين إلى هذا الحد؟ أم أنّنا لم نكن علمانيين يوما؟ إذ يطالب بعضنا اليوم بالعلمانيّة كأنه اخترعها البارحة، ويطالب -في الوقت ذاته - بحقوق مكوّنه -ما قبل المدني- بوصفه نتاج مظلوميّة ما بعد حداثيّة!

لعلّ كلامي لا يبدو إنكاراً لوجود مشكلات حقيقيّة تعاني مجتمعاتنا بالفعل منها، لكن السؤال حول التفسير النمطي لتلك المشكلات مشروع أيضاً لمعرفة من نحن؛ إذ منذ حلّت علينا مصيبة "داعش" ظهر تحوّل جذري في رؤية "أصدقاء الشعب السوري" إلى الثورة باعتبارها "حرباً أهليّة" تسبّبت لأوروبّا باللاجئين والإرهاب!

أما الإرهاب فجاء تحالف دولي بزعامة أميركا لمحاربته، وأفضت مهمّة القضاء على الإرهاب إلى ضرورة "تجميد الصراع" للتفرغ لمحاربة داعش، ما رسّخ حالة الانقسام في الجغرافيا والشعب السوري، ومنح شبه اعتراف دوليّ بسلطات أمر واقع، لا تستند إلى تفويض من الشعب السوري، بل إلى تمثيل أدبي لـ "مكوّنات"!

أمّا مشكلة "اللاجئين" فقد أنشأت الدول المتضررة منها مؤتمر بروكسل للمانحين لتقديم معونات مالية لدول الجوار السوري لتعمل كمصدّات تحول دون وصولنا إلى أوروبّا.

وبجانب غيابنا السياسي والمدني كان ثمة سياق آخر قانوني وتفاوضي بدا توافقه مع مآلنا صدفة مدهشة، أعني تفكيك القرار 2254 إلى سلالٍ لم يُوفّق منها إلّا سلّة "الدستور- العقد الاجتماعي" الذي استدعى تحويل دور "منظمات الإغاثة الإنسانيّة" إلى دور "منظمات مجتمع مدني" تفكّك هي الأخرى ما تبقى من القرار الدولي في "ورش عمل" لتصل به مؤخّرا -في مختلف مناطق سلطات الأمر الواقع- إلى مرحلة "التعافي المبكر"!

لعلّ ثمة خطاب مكوناتي يمثل استراتيجيا للحل إذن، لكنّه خطاب يحمل تناقض استناده إلى هويات -مكوّنات ما قبل مدنيّة، ومظلوميّات ما بعد حداثيّة؛ الخطاب الذي لم يقنع، على ما يبدو، سيدة سوريّة تمكّنت من الوصول – مثل مئات آلاف السوريين بغض النظر عن مكوّناتهم – مهاجرة إلى أوروبّا.