على ما يبدو أن الجيش الروسي وبعد انقضاء سبعة أشهر كاملة من الحرب الضروس التي بدأها بوتين ضد أوكرانيا في 24 شباط الماضي، وأطلق عليها جزافا العملية الخاصة، وعليه فالوقائع الميدانية والانتكاسات الحاصلة في سير المعارك خاصة في فتراتها الأخيرة، باتت تدل على أن هذا الجيش لا يزال يغوص أكثر وأكثر في مستنقع الموت والاستنزاف الأوكراني، متكبداً مزيداً من الخسائر الفادحة وغير المسبوقة بالأرواح والمعدات، هذه الخسائر التي لم تعرف موسكو مثيلا لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن اللافت والمستهجن في الأمر أن بوتين لايزال مع كل تلك الخسائر مصرا وماضيا في تغذية هذه المحرقة، وزيادة أوارها ودمويتها من خلال الزج بمئات الآلاف من أفواج جنود بلاده الجدد فيها، كل هذا يحدث عَّلَ هذه الإجراءات الدموية المتخذة تقربه من الوصول إلى عتبات تحقيق أهدافه الاستراتيجية التوسعية التي أعلن عنها منذ بداية حربه هذه التي وكما تشير كل الوقائع الميدانية والسياسية أن أهدافها ربما باتت بعيدة كل البعد عن متناول يمينه، هذا إن لم نقل أنها ونتيجة عوامل عديدة أصبحت أشبه بالمستحيلة.
التراجعات الأخيرة، والانسحابات الروسية الكبيرة التي حدثت يقابلها نجاحات ملحوظة ولافتة حققتها القوات الأوكرانية
في الواقع إن الأهداف التي وضعها بوتين وسعى من خلال غزوه لأوكرانيا لتحقيقها، تتلخص كما بات معروفا بالقيام بعمليات نزع أسلحة الجيش الأوكراني، والوصول إلى العاصمة كييف لإسقاط حكمها الذي وصفه بالحكم النازي وتشكيله حكومة موالية لموسكو، كتلك التي كان يرأسها "فيكتور يانكوفيتش" قبل طرده بانقلاب عام 2014 ولكن من الواضح، ومع تأخر إنجاز وتحقيق هذه الأهداف، واقتراب دخول الحرب أبواب شهرها الثامن، فقد اختار الرئيس "بوتين" "صب الزيت على النار" التي أشعلها بيديه، وذلك من خلال إعلانه المفاجئ عن القيام بالتعبئة الجزئية لقوات بلاده الاحتياطية، هذا الإعلان الذي أتى متزامنا أيضا مع إقرار الكرملين إجراء استفتاء شعبي سيقضي حتما بضم المناطق الأوكرانية التي سيطر عليها الجيش الروسي بالقوة إلى موسكو (إقليم الدونباس، خيرسون، زباروجيا )، يأتي هذا كله في محاولة من زعيم الكرملين إعادة رسم حدود دولة أخرى من خلال السيطرة العسكرية والميدانية عليها، وبالطبع هذا الأمر إن تم أمام مرأى العالم ومنظماته ومجالسه وسمعهم، فإن "شريعة الغاب" ستسود حتما بل وربما ستتشجع دول أخرى كالصين مثلا لاتباع هذا النهج نفسه تجاه تايوان مستقبلا.
من ناحية ثانية فلا شك أن التراجعات الأخيرة، والانسحابات الروسية الكبيرة التي حدثت يقابلها نجاحات ملحوظة ولافتة حققتها القوات الأوكرانية، وخاصة في الشهرين الأخيرين هذه النجاحات بالتأكيد لم تأت من فراغ، بل ارتكزت على العديد من المعطيات والأسباب والذي يأتي على رأسها
- الروح المعنوية العالية التي يتمتع بها الشعب والجيش الأوكراني، والتفافهم الواسع والواثق حول قياداتهم السياسية والعسكرية، وإصرارهم على الثبات والصمود، واستعادة كل الأراضي المغتصبة التي سيطرت عليها القوات الروسية من خلال عدوانها واجتياحها للأراضي الأوكرانية.
- خطوط الإمداد المفتوحة، والأسلحة والعتاد واللوجستيات الأميركية والغربية الحديثة، التي تم تزويد القوات الأوكرانية بها، مثل منظومات وراجمات "هايمرز" وبطاريات مدفعية "هاوتزر" 777 الأميركية التي تتمتع بقوة نارية كبيرة ومزودة جميعها بنظام تحديد الأهداف، بحيث تمكنها من الرمي على أهدافها بدقة متناهية، هذا بالإضافة إلى منظومة الدفاع الجوي "ناسامز" وعشرات الأنواع من المركبات وأسلحة الـ م/د وعلى رأسها صواريخ "جافلاين"، و(إن لاو)، وأسلحة الـ م/ط كصواريخ "ستنجر" الأميركية، وطائرات بيرقدار التركية، وغيرها الكثير، والتي كان لها جميعا دور كبير في الفتك بجنود "بوتين" وتدمير أرتال مدرعات وآليات جيشه وإسقاط أسراب طائراته.
- المعلومات الاستطلاعية والاستخبارية والاستشارية، المقدمة من واشنطن وحلف الناتو للقوات الأوكرانية، والتي شملت كل التحركات الميدانية للقوات الروسية على الأرض، وسبل التعامل معها ناريا وتدميرها.
ولعل أهم المعلومات المقدمة التي ساعدت في تحجيم التفوق الروسي وتغيير المعادلة نسبيا لصالح الجيش الأوكراني تتلخص فيما يلي:
- أماكن مقار القيادة والسيطرة، ومستودعات الذخيرة والسلاح، واللوجستيات والمؤخرات وطرق الإمداد والإخلاء العديدة للجيش الروسي.
- محاور الهجوم الرئيسية والثانوية والأماكن الأكثر قوةً وضعفاً في أنساق هجوم القوات الروسية، وأماكن الفرج بين قواتهم، وذلك لاستغلالها في الهجمات المعاكسة والمعارك التصادمية، وهذا الذي حصل تماما في الأسابيع القليلة الماضية، حيث تمكنت القوات الأوكرانية خلال أيام قليلة من استعادة آلاف الكيلومترات من الجيش الروسي، وخاصة على محاور الجبهة الشرقية ومحيط خاركييف، إضافة لعشرات المواقع في محيط مدينة "خيرسون" الواقعة على البحر الأسود جنوبا.
تحليلا فإن التعبئة الجزئية التي أعلن عنها الكرملين، والتي كما صرح وزير الدفاع الروسي شويغو أنها ستشمل وتطبق على ما يقارب 300 ألف من الجنود، فوفقاً للمنظور العسكري ستحتاج هذه الأعداد الكبيرة إلى فترات طويلة قد تمتد من 6 إلى 9 أشهر تُقْضَى في تجميعهم، وتنظيمهم وتأهيلهم، وإخضاعهم للتدريب الاختصاصي، ورفع سويتهم القتالية ولياقتهم البدنية والميدانية، ليزجوا بعد ذلك في الأعمال القتالية، طبعا هذا إن لم يكن "القيصر الروسي" يريد أن يخالف ذلك، ويزج بهم مباشرة وبشكل مبكر بالمعارك الدامية، ليكونوا صيدا سهلا للقوات الأوكرانية، وتكون نهايتهم لا أكثر من أرقام متسلسلة في لوائح القتلى والجرحى، فالواقع العسكري يؤكد أن "موسكو" قد استخدمت نخبتها القتالية وقوتها الضاربة منذ بداية المعارك دون إحراز النتائج المرجوة التي أرادها بوتين فكيف بهؤلاء!
في الواقع فإن هذه التعبئة الجزئية تدل دلالة واضحة على أن موسكو عسكريا غير قادرة على تحقيق كامل أهدافها، وأن استراتيجيتها لم تؤتِ أُكُلَها في إسقاط العاصمة "كييف" وسلطتها حتى الآن، بل وتكبدها الخسائر الكبيرة بالعدة والعتاد. ناهيك أيضا عن أن هذه التعبئة تدل دلالة لا لبس فيها، على شراسة واستمرار العمليات لفترات أطول بكثير من التوقعات، وربما اتخاذها مستقبلا منحىً تصعيديا نوويا كما هدد بوتين بذلك. وفي العموم فإن هذه التعبئة المعلنة تدل دلالة واضحة على:
- الخسائر الكبيرة التي منيت بها موسكو في حربها هذه بالعدة والعتاد.
- انخفاض الروح المعنوية للجيش الروسي العامل في أوكرانيا.
- سيؤدي هذا القرار لمفعول عكسي لدى القوات المسلحة والشعب الروسي، إذ إن هذه التعبئة تعني أن القوات الروسية الرئيسية منيت بخسائر كبيرة وفقدت أكثر من نصف قدراتها القتالية.
- شعور بوتين والقيادة العسكرية الروسية بالذعر من فشل عمليتهم الخاصة، وعدم تحقيقها لأهدافها بعد كل هذه الخسائر الفادحة.
لا نستبعد أن يلجأ "بوتين" لاستخدام السلاح النووي التكتيكي ضد مواقع محددة، وذلك في محاولة منه لوقف التقدمات والهجمات الأوكرانية المضادة
ختاما.. من يعرف حقيقة تركيبة وشخصية بوتين وتفكيره الذي لا يستسلم بسهولة للهزيمة، وخاصة بعد كل هذه الانسحابات والإخفاقات العسكرية لجيش بلاده على الجغرافيا الأوكرانية، وفي ظل استعادة الجيش الأوكراني الكثير من المناطق المحتلة بالجنوب والشرق والشمال الشرقي، وبما أن الأعمال القتالية أصبحت أكثر شراسة وبدأت ومنذ فترة تأخذ طابع معارك كسر العظم بين موسكو والناتو الذي بات وبلا شك تخوض دوله حربا بالوكالة على الأراضي الأوكرانية، فلا نستبعد أن يلجأ "بوتين" لاستخدام السلاح النووي التكتيكي ضد مواقع محددة، وذلك في محاولة منه لوقف التقدمات والهجمات الأوكرانية المضادة، وإجبار القيادة الأوكرانية على الاستسلام والقبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات وفقا لشروط الكرملين، فهل ستشهد الأيام والأسابيع المقبلة هذا الواقع المؤلم؟ ننتظر ونراقب ونرى.