في الواقع، شهدت السنوات القليلة الماضية تطورًا كبيرًا في سير وتقدم العلاقات الروسية-الإيرانية. والحقيقة أن هذا التطور لم يأتِ من فراغ، بل توجته قناعة روسية بأن عداء إيران للولايات المتحدة يجب الاستفادة منه واستثماره بما يتماشى مع استراتيجية ومصالح الكرملين.
وعليه فقد وُلد من الخاصرة نوع من التحالف الاضطراري المرحلي، الذي على ما يبدو قد غطى على أي تأرجح سابق للعلاقات السياسية بين الدولتين، خاصة مع وجود عشر سنوات مضت من التعاون التكتيكي وتنسيق الأعمال الميدانية المشتركة بينهما على الأراضي السورية.
بل وزاد من شأن التقارب الإيراني الروسي ما يُسمى بالبيئة الاستراتيجية الحالية بين الطرفين، والتي حفّزت موسكو وطهران على تطوير التعاون بشكلٍ أوسع. وقد كان هذا واضحًا عند اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط 2022 والموقف الإيراني الإيجابي منها، إذ ظهر هذا التعاون من خلال توقيع كثير من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وسعي مسؤولي البلدين وحرصهم الدائم على تحسين إمكانيات الارتقاء بالعلاقات المشتركة بين الدولتين، وتوسيعها إلى المستوى الاستراتيجي.
لا بد لنا من الإشارة إلى أن العمل على إنجاز وتحقيق اتفاق استراتيجي بين روسيا وإيران لم يبدأ الآن فقط، بل تم وضع لبناته الأولى في أيلول 2022.
شراكة دفاعية وتحديات خارجية
من خلال ما تقدم، وعلى وقع الأحداث السياسية والميدانية الساخنة التي عاشتها ولا تزال تعيشها منطقتنا والعالم، فقد وافق الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مؤخرًا على اقتراح الوثيقة التي قدمتها وزارة الخارجية الروسية، بالتعاون مع المنظمات الحكومية الفدرالية المعنية، لوضع الأسس والقواعد المناسبة لتوقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران.
وبالتأكيد، هذا الأمر جاء متزامنًا مع وقع الاتهامات الأمريكية والغربية الموجهة إلى طهران، بأنها وفقًا لتقارير استخباراتية كثيرة تقوم بتزويد موسكو بالطائرات المسيرة المتنوعة، وشحنات من الصواريخ الباليستية لاستخدامها في الحرب ضد "كييف"، رغم نفي الكرملين لذلك وتأكيده أن هذه التقارير والاتهامات الموجهة للبلدين أكاذيب ملفقة ولا أساس لها من الصحة.
عمليًا، لا بد لنا من الإشارة إلى أن العمل على إنجاز وتحقيق اتفاق استراتيجي بين روسيا وإيران لم يبدأ الآن فقط، بل تم وضع لبناته الأولى في أيلول 2022 في أثناء لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي، ومناقشتهما هذه القضية على هامش قمة "منظمة شنغهاي" للتعاون، التي عُقدت في سمرقند "أوزبكستان". واستنادًا إلى ذلك كله، جاء تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، "أندريه رودينكو" وإعلانه عن اقتراب روسيا وإيران من توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التاريخية الشاملة، التي لم تُكشف تفاصيلها حتى الآن، والتي استغرق إعدادها من قبل خبراء خارجية الدولتين سنتين ونصف من الزمن.
والتوقيع عليها، بحسب موسكو، سيكون خلال قمة مجموعة "البريكس" التي ستنعقد في شهر "تشرين الأول" من هذا العام في مدينة قازان الروسية.
القمة التي سيشارك بها الرئيس الإيراني "بزشكيان"، الذي صرح قائلًا بشأن هذه الاتفاقية: "إن هدفنا هو تنمية شراكة لا تقاوم فقط التحديات الخارجية، بل تزدهر أيضًا بالاحترام المتبادل والتعاون"، مضيفًا بأن هذه الشراكة يمكن أن تساعد إلى حدٍ ما في تقليل آثار العقوبات الدولية المفروضة على موسكو وطهران.
تحقيق بعض طموحات إيران في أن يكون لها دور محوري دولي وإقليمي، انطلاقًا من حدودها مع أفغانستان وصولًا إلى سوريا والعراق ولبنان والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
آثار الشراكة على الوضع في سوريا
في الواقع، لا تزال بنود وأهداف الاتفاقية الاستراتيجية الروسية الإيرانية المرتقبة غير معروفة حتى هذه اللحظة، وخاصة فيما يهمنا منها، أي ما يتعلق بالقضية والثورة السورية، إن كان من الناحية السياسية أو العسكرية. وبما أن الطرفين صرحا مرارًا وتكرارًا بأن لديهما عملاً مشتركًا في سوريا يشمل دعم نظام الأسد وتأمين مصالحهما في هذا البلد، رغم اتخاذهم مواقف مختلفة في هذا الأمر، إلا أن الواضح والجلي أن سنوات الثورة السورية الماضية أظهرت أن الطرفين شئنا أم أبينا قد وحدا أهدافهما ووطدا علاقاتهما، وتمكنا من التغلب على تحديات التنسيق التي ظهرت غالبًا في الميدان، ونجحا في إدارة خلافاتهما التكتيكية العارضة. والحقيقة الدامغة والأهم أن كلا الطرفين لم يقصرا أبدًا بإرهابهما وإجرامهما ووقوفهما بكل قوة كداعمين وحلفاء أساسيين للنظام المجرم في سوريا، وقيامهم إلى جانب جيش وأمن الأسد بتدمير سوريا ونهب وسرقة مقدراتها وثرواتها، ناهيك عن ارتكابهم مجتمعين عشرات المجازر الدموية القذرة بحق أبنائها. بناءً على ذلك، فقد باتت "طهران وموسكو"، رغم أنف الأسد ونظامه القمعي، تمتلكان نفوذًا وولاءً وقرارًا أمنيًا وعسكريًا واسعًا ضمن جيش الأسد ومكاتب أمنه، وفي المناطق التي تسيطر عليها حكومته، باعتبارهما الدولتين اللتين تصرحان دائمًا بأنهما السبب الوحيد في منع سقوط نظامه المدوي.
ولكن في المقابل، نستطيع الاستنتاج أنه ورغم اقتراب موعد توقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين الطرفين، وأهمية العمل المشترك بينهما في سوريا، فإنّ هذا لا يلغي وجود واستمرارية الخلافات الاستراتيجية بينهما، وذلك على الأقل نتيجة للمنافسة على الحصص وطريقة إبرام العقود الطويلة المتعلقة بالمطارات والقواعد البرية والبحرية، والطاقة والموارد الاقتصادية المختلفة، والعقود القادمة لإعادة إعمار سوريا التي ستكون حتمًا بمئات مليارات الدولارات.
عمليًا، لا بد لنا أن نعترف بأنّ التعاون بين طهران وموسكو تطوّر بسرعة خلال السنوات القليلة الماضية على صعيد ملفات عدة. يأتي على رأس هذه الملفات ملف القضية السورية، الذي تغاضت فيه موسكو كثيرًا عن تمدد النفوذ الإيراني حليفها وسيطرته على مناطق ومساحات واسعة من سوريا، بل وكما هو معروف أدارت ظهرها لكل هذا الأمر، وذلك كله من أجل كذبة كبيرة فحواها استمرارية العمل المشترك على احتواء خطر النفوذ الأمريكي في المنطقة. هذا بدوره ما جعل الطرفين يسارعان الخُطا لتجاوز خلافاتهم التكتيكية والاقتصادية في سوريا، والوصول إلى الشراكة الاستراتيجية التي ستتمخض عنها، كما تشير كل المعطيات، تشكيل محور عسكري روسي-إيراني قد يحقق كلاً أو بعضًا من الأهداف التالية:
- تأمين القواعد والمصالح والأهداف الاستراتيجية الروسية في المنطقة، وبالتأكيد هذا مقابل غض طرف موسكو عن سياسات إيران المشبوهة في سوريا.
- جعل واشنطن ومعها إسرائيل غير قادرتين على احتواء توسع النفوذ الروسي والدول المتحالفة معه (إيران) وخاصة في سوريا، وأن ذلك سيكون مهمة صعبة وشبه مستحيلة لهم.
- تحقيق بعض طموحات إيران في أن يكون لها دور محوري دولي وإقليمي، انطلاقًا من حدودها مع أفغانستان وصولًا إلى سوريا والعراق ولبنان والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
- زيادة قلق الولايات المتحدة وحلفائها، وتضخيم مخاوفهم من قيام الشراكة الدفاعية الكاملة بين روسيا وإيران، والذي تعتبره واشنطن تهديدًا لجيران إيران في المنطقة، وخصوصًا لإسرائيل. وبالتالي، سيشكل هذا ضغطًا على واشنطن قد يجعلها تتنازل أو تظهر المرونة في كثير من المواقف الصلبة التي اتخذتها تجاه ملفات عدة عالقة بينها وبين طهران وموسكو.
في النهاية، يبدو أنّ التحالف الاستراتيجي الواسع المنتظر بين روسيا وإيران، سيملي على كلا الطرفين ضرورة إيجاد طريقة مناسبة نحو التفاهم والتقاسم التوافقي للمغانم المكتسبة في سوريا، وتفهم كل طرف لمصلحة الآخر في هذا البلد الهام.
إذ يقول الواقع السياسي والميداني إنه ليس من مصلحة موسكو خسارة تحالفها الحالي مع طهران، خاصة في الملف السوري، ما دامت توظف ذلك في صلب لعبة التنازع على النفوذ مع أمريكا والغرب في الحرب الأوكرانية ووقوف طهران بالسلاح إلى جانبها فيه. وفي المقابل، ليس أيضًا من مصلحة إيران مناكفة روسيا أو استعداؤها على حضورها ودورها ونفوذها الواسع في سوريا، ما دامت تستمد من الحليف الروسي الدعم السياسي والحماية العسكرية، ولو أن الحماية تبدو ناقصة على الأراضي السورية نتيجة لدور موسكو السلبي تجاه الاستهداف المتكرر للميليشيات والمصالح الإيرانية على الجغرافيا السورية من قبل إسرائيل.