إذا صرفنا النظر عن تدخل حزب الله وعشرات الميليشيات الإيرانية براياتها وأسمائها المتعددة، فلا شك أن تسع سنوات ويزيد على التدخل والوقوف الروسي إلى جانب نظام الأسد القاتل، وزج موسكو لكل وسائل ووسائط التدمير البرية والبحرية والجوية، وإحالتها الجغرافيا السورية إلى حقول رمي وساحات اختبار وسوق لأسلحتهم الفتاكة، وتدريباً لجنودهم وزيادة خبرتهم في القتال في ظروف مشابهة للمعارك الحقيقية.
كل هذا بالتأكيد قد شكل نقطة تحول مفصلية في تاريخ الثورة السورية، وغيّر فعليًا بلا حول ولا قوة من الثوار موازين القوى الحقيقية على الأرض، بل وقلب التدخل الروسي هذه الموازين، ورسم بإرهابه ووحشيته من جديد خريطة السيطرة والنفوذ التي أتت لصالح النظام وميليشيات إيران وحزب الله، وعلى حساب أملاك ودماء السوريين وتهجير ونزوح الملايين منهم قسريًا، بل وعلى حساب المعارضة السورية والفصائل الثورية المسلحة التي كانت تسيطر فعليًا قبل التدخل الروسي الدامي على ما يقارب من 70٪ من المساحة السورية، في حين كان جيش الأسد بالكاد لا يسيطر إلا على مراكز المدن وما نسبته 22٪ من هذه المساحة، بل وكان نظام الإجرام وأركانه وعصابات حكمه قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والسقوط المدوي المؤكد، بعد أن وصل الثوار بعدتهم وعديدهم، وكما نعرف، إلى بعد كيلومترات قليلة عن قصور رأس النظام الرئاسية في قلب العاصمة دمشق.
لا شك أن سقوط مدينة حلب في نهايات 2016 قد شكل زلزالًا قويًا وضربة كبيرة لنا وللفصائل الثورية المسلحة، وخاصة بعد أن كان هذا السقوط السريع فأل شرّ وإيذانًا وتوقعًا لخسائر ميدانية أكبر في محافظات ومناطق أخرى، وخاصة في أرياف حلب وإدلب. وللأسف، هذا ما كان فعلاً، فمع بدايات عام 2019 خسرت الفصائل مدن معرة النعمان وخان شيخون وسراقب. وفي عام 2020 أيضًا، بدأت الفصائل تخسر عشرات المدن والمناطق والبلدات لصالح قوات النظام المدعومة بميليشيات إيرانية وقوات روسية خاصة، وبتغطية جوية مدمرة من الطائرات والمقاتلات الروسية.
وعليه، فإن سقوط مدن عندان وحريتان وحيان وعينجارة، وبلدات الشيخ عقيل وكفر ناها وأورم الكبرى والصغرى، وعشرات القرى بأرياف إدلب وحلب، قد شكَّل صدمة كبيرة وقاسية على المعارضة المسلحة وحاضنتها الشعبية، التي للأسف، ولعوامل وأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن، سيطرت عليها قوات النظام وميليشياته بعد انسحاب الفصائل المفاجئ وغير المسؤول منها. هذه البلدات تعتبر حقيقة مهد الثورة في الشمال السوري وشعلتها، وهذا بدوره ما فتح، وإلى هذا الوقت، المجال لإثارة التساؤلات المحيرة الكثيرة حول مصير ما تبقى من مناطق محررة في أرياف حلب وإدلب واللاذقية وحماة.
إن خطوط التماس الحالية في أرياف حلب وإدلب لم تشهد، وبشكل مطلق، مثل هذا الكم من التعزيزات العسكرية الكبيرة للفصائل كتلك التي تمت وما زالت تتم خلال الأيام القليلة الماضية في جبهات ريف إدلب وحلب في شمال غربي سوريا.
هل معركة استعادة حلب واقع مأمول وحقيقة ممكنة؟
بعد سنوات وسنوات من خسارة الثورة وفصائلها لكثيرٍ من مناطق سيطرتها شمالاً ووسطاً وجنوباً، وخاصة مدينة حلب وأجزاء كبيرة من أريافها وأرياف مدينة إدلب، فقد باتت تلوح في الأفق منذ فترة تسريباتٌ ومعلومات تفيد بأن بعض فصائل الثورة السورية المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام وغرفة الفتح المبين، تتجهز وتتحضر لمعركة قد تكون طويلة وصعبة وحاسمة. هدفها المعلن هو الوصول إلى مدينة حلب ومحاولة السيطرة عليها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، باتت الفصائل تقوم بالتحضيرات اللوجستية والقتالية الممكنة، وتقوم بتدريب وتحشيد وتجهيز قواتها من أجل هذه المعركة المرتقبة التي من الممكن أن تتزامن عملياتها مع احتمالية قيام القوات التركية بعمليات عسكرية برية ضد ميليشيات قسد في منطقة تل رفعت وسد الشهباء أو غيرها من المناطق.
في الواقع، ومنذ سنوات عدة ومن خلال المتابعة الدائمة لخطوط النار والتماس الحالية، اعتبارًا من أرياف اللاذقية الشمالية الشرقية، مرورًا ببعض قرى الغاب وأرياف إدلب، وصولاً إلى أرياف حلب الشرقية والشمالية بين الفصائل وقوات النظام المجرم وحلفائه في المناطق المسماة مناطق تخفيف التصعيد، التي فرضتها الاتفاقيات المجحفة بين تركيا وروسيا (أستانة وسوتشي)، ورغم وجود وانتشار كثير من النقاط التركية على خطوط الفصل هذه، فإني أستطيع القول إن خطوط التماس الحالية في أرياف حلب وإدلب لم تشهد، وبشكل مطلق، مثل هذا الكم من التعزيزات العسكرية الكبيرة للفصائل كتلك التي تمت وما زالت تتم خلال الأيام القليلة الماضية في جبهات ريف إدلب وحلب في شمال غربي سوريا، وسط أنباء متواترة كثيرة توحي بقرب اندلاع معركة وشيكة قد تطلقها الفصائل للسيطرة على مدينة حلب، كبرى مدن الشمال السوري وعاصمته الاقتصادية المهمة، والتي إن حدثت فعلاً ونجحت في تحقيق أهدافها، ولو كانت صعبة، فإنها ستغير كثيرًا من التطورات الميدانية والسياسية لمشهدية الملف السوري.
إن أي عملية هجومية كبيرة بحجم استعادة مدينة حلب تحتاج حقيقة إلى كثير من الترتيبات والتحضيرات العسكرية والميدانية والتفاهمات الدولية والإقليمية.
صعوبات ميدانية وسياسية وغياب الغطاء الدولي
لا أريد أن أكون مثبطًا أو متشائمًا أو مكسرًا ومحبطًا للمعنويات، ولكن إن كان هناك عملية فعلاً فإن هذه العملية حتمًا، ونتيجة لكشف التحضير والاستعداد لها وتناقل ذلك إعلاميًا، فقدت بلا شك أهم عنصر لها، وهو عنصر المفاجأة والمباغتة. ولكوني أكاديمياً عسكرياً، فلا أريد أن أقلل من شأن أي عمل قد يكون سببًا في تخليص أهلنا من استعباد وبطش هذا النظام المستبد، بل أريد أن أكون واقعيًا ولا أنحاز بأي شكل من الأشكال للعواطف، وخاصة الهدامة منها، وأقرأ المجريات الميدانية بدقة وتعمق، وأقارن بين الإمكانات العسكرية والمادية للطرفين من كل الأوجه البرية والجوية والصاروخية، وحالة وطرق الإمداد وإمكانات قطعها أو استمرارية عملها، وأقارن بين نسبة القوى والوسائط للطرفين، ولمن ستميل الكفة، مع الأخذ بعين الاعتبار المعنويات والإيمان بالهدف الذي يعتبر عنصراً مهماً وحاسماً. وأحدد إمكانات الطرفين للقتال الدامي وبالنفس الطويل، وليس مجرد هجوم انفعالي للفصائل تكسب من خلاله بعض المناطق ثم تنسحب منها بعد ساعات أو أيام، وذلك لعدم قدرتها التسليحية على التمسك والتشبث بها. هذا إذا استثنينا الإجرام الذي لم ينقطع منذ بدايات الثورة وبدأ يزداد الآن ضد مناطق المدنيين من قبل النظام والروس، وذلك بهدف تحذير الفصائل من مغبة تحضيراتهم الهجومية تلك. بل وإن الأشد من هذه الجرائم سيرتكب في الأيام المقبلة إن تمت هذه العملية وبدأت جولاتها، وسيكون انتقامًا أسود من ملايين السكان المدنيين القاطنين في إدلب وأريافها والشمال السوري والمخيمات التي للأسف لا تقي ساكنيها برد وويلات شتاء مقبل، فما بالك بأن تقيهم قذائف وشظايا وصواريخ لن تعرف وتفرق بين صغير أو كبير؟ هذا ناهيك عن إمكانية حدوث موجات نزوح ولجوء سيسببها قصف وإجرام النظام، والتي بلا شك ستضغط على الحدود التركية، ولا نعرف بالضبط ما هو موقف الحكومة التركية وموقف أحزاب معارضاتها السياسية، ولو أن المتوقع ألا تقبل تركيا بفتح حدودها كما في السابق وستعارض ذلك بشكل مؤكد.
يأتي هذا رغم أن الأجواء السياسية والدولية المنشغلة بحرب غزة ولبنان وارتداداتها وانعكاساتها المحتملة ليست مهيأة لمتابعة ذلك، وأن أي عملية هجومية كبيرة بحجم استعادة مدينة حلب تحتاج حقيقة إلى كثير من الترتيبات والتحضيرات العسكرية والميدانية والتفاهمات الدولية والإقليمية، بل تحتاج أيضاً إلى غطاء دولي قوي يضمن انطلاقتها واستمراريتها ودعمها قتالياً وسياسياً على المدى الطويل حتى تحقيق أهدافها.