ثمة دافع مهم يحمل قاضي سرمدا، أبا ماجد، على تجنب الأضواء. وهناك سبب خفي وراء تسلمه مناصب عديدة في وزارة العدل؛ فهو رئيس محكمة البداية في سرمدا، منذ أن انتقل إليها من رئاسة محكمة إدلب، أوائل 2018، وحتى الآن، ورئيس المحكمة العسكرية الثانية، ومعاون الوزير في حكومة الإنقاذ المدعومة من هيئة تحرير الشام. وأخيراً، لا بد أن هناك مبرراً قوياً لعدم تسلمه وزارة العدل في إحدى دورات هذه الحكومة رغم نفوذه الواضح.
يشبه أبا ماجد في التخفي شخصٌ آخرُ يشغل كذلك منصباً مدنياً لا يستدعي كل هذا الغموض، وهو عبد القادر الأديب، «المسؤول العام» عن «الهيئة العامة للزكاة» التي أُسِست في مطلع أيار 2019 بعد مؤتمر رعته وزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد في حكومة الإنقاذ، وللغرابة لا يظهر فيه مسؤولها العام الأديب، الذي سرعان ما تخلص من عباءة الوزارة التي فوضت الهيئة «تفويضاً تاماً» بتحصيل وصرف وتنظيم الزكاة، باعتبارها «هيئة معتبرة ذات استقلال إداري ومالي»، إلا حين تحتاج إلى فرض الجباية على السكان فتستعين بهيئة تحرير الشام، كما حصل في صراع شهير مع أهالي كفر تخاريم حول أداء زكاة الزيتون في تشرين الثاني 2019، حين طوقت قوات قطاع الحدود في هيئة تحرير الشام المدينة، وفاوض الأمنيون وجهاءها على عودة موظفي حكومة الإنقاذ إليها بعدما كانت قد انتفضت في مظاهرات وأخرجتهم، بادئة بـ لجان جمع الزكاة التي توجهت، بسجلاتها وإيصالاتها، إلى معاصر الزيتون.
كان على المرء أن ينتظر قليلاً حتى تفرج وزارة العدل عن اسم قاضيها أبي ماجد، أو أبي إباء في رواية أخرى قليلة الانتشار تربط بين لقبه وبين شبكة إباء الإخبارية، وكالة الأنباء غير الرسمية لهيئة تحرير الشام. فمع سعي حكومة الإنقاذ إلى مزيد من الشفافية لم تعد بالإمكان الإشارة إلى قاضي سرمدا باللقب، بل باسم «طبيعي» وإن كان مستعاراً، وحتى لو كان «عبد القادر الأديب» نفسه، مسؤول هيئة الزكاة!
وأخيراً بقي للتسريبات المتضافرة أن تتكفل بمهمة إيضاح سر تولي الرجل هذه المناصب كلها، والدعم الذي يحوزه أينما كان، وبعده عن الأضواء إلى درجة غياب أي صورة له عن إعلام حكومة الإنقاذ وهيئة تحرير الشام، فهو ليس أقل من شقيق قائدها أبي محمد الجولاني!!
ما لم تكن العائلة تعرفه وقتها أن ابنها الأصغر كان حياً، ومعتقلاً منذ غياب تواصله
ولد حازم عام 1975، كابن ثان للخبير الاقتصادي حسين الشرع. عمل في شركة «جود» الشهيرة للمشروبات الغازية، ودرس الحقوق في جامعة دمشق حتى دخل سجل نقابة محامي العاصمة في شباط 2007، بعد أقل من ثلاثة أشهر على قدوم مولوده الأول الذي أطلق عليه اسم أحمد، إحياء لذكرى أخيه الذي كان قد غادر إلى العراق مجاهداً ضد التدخل الأميركي، قبل سنوات، وانقطعت أخباره بعد سفره بأشهر.
ما لم تكن العائلة تعرفه وقتها أن ابنها الأصغر كان حياً، ومعتقلاً منذ غياب تواصله. فقد كان من عادة التنظيمات الجهادية أن تزود مقاتليها ببطاقات شخصية عراقية كي تعاملهم السلطات الأمنية على أنهم مقاوِمون محليون، لا مجاهدون عابرون للحدود، في حال احتجازهم. ولأن هذه الحيلة كانت معروفة عمدت القوات الأميركية إلى الاستعانة بمحققين محليين يجرون للمعتقل فحصاً للهجة. ورغم الأشهر القليلة التي أمضاها هناك تمكن أحمد من اجتياز الامتحان وسُجن على أنه مواطن عراقي. وقد كان لنجاح هذه الخدعة آثار متباينة على مستقبله. فمن جهة أولى قطعت طريق التواصل مع عائلته، مما كانت منظمة الصليب الأحمر قد تكفلت به بنقل رسائل متبادلة، تحت الرقابة، في حالة المقاتلين الأجانب. ومن جهة أخرى أتاحت له السنوات الخمس التي قضاها سجيناً بين العراقيين فرصة التعرف إلى عدد من كبار جهادييهم ممن سيصبحون قادة في «دولة العراق الإسلامية» بعد خروجهم وسيدعمون ترشيحه لقيادة المجموعة الذاهبة إلى سوريا لتأسيس جبهة النصرة، صيف عام 2011، بلقب أبي محمد الجولاني.
كان هذا كله مجهولاً لدى آل الشرع في دمشق، الذين ظنوا أن ابنهم قضى نحبه. لا سيما بعد أن استخدم الأب علاقاته فتقدم بكتاب إلى رئاسة الجمهورية يشرح فيه وضع ولده، الذي صارت دوريات الشرطة المعنية تتردد إلى محل الأسرة باحثة عنه طلباً لأدائه الخدمة العسكرية الإلزامية بعدما تخلف عن تقديم التأجيل الدراسي إثر انقطاعه عن كلية الإعلام. وبناء على الفكرة السائدة وقتها عن اعتقال العائدين من العراق طالب حسين الشرع بالبحث عن ابنه لدى الأجهزة الأمنية. وبعد نحو شهر جاء الرد سلبياً مما عزز فكرة موت الغائب.
لن تعرف العائلة أن ابنها هو الجولاني، الذي بدأ الحديث عنه في الأخبار، إلا في وقت متقدم نسبياً. بعدما قدّر هو أن الأمر لن يخفى طويلاً، وأن بقاءها آمنة في منزلها في حي الفيلات الشرقية مسألة وقت، فأمّن خروج والديه إلى الشمال ريثما غادرا البلاد. أما إخوته فمن لم يكن منهم يقيم في الخارج أصلاً، بقصد العمل، فقد كان عليه أن يغادر أيضاً. وفي حين سافر معظم الإخوة بطرق مشروعة ووثائق سفر نظامية إلى بلدان مختلفة عاشوا فيها حياة طبيعية، فإن حازم لم يغادر قبل أن يُتهم بعملية تفجير!
غادر حازم إلى بلد عربي حيث حاول أن يستأنف حياة عادية. لكنه كان الأكثر حماساً بين الإخوة والأشد انفعالاً بما يجري في سوريا
كانت الشقيقة، التي تصغره بعام واحد، طرفاً في زواج غير متناسب قادت إليه عوامل القرابة. وكانت العائلة قد تأقلمت مع تعثر هذا الزواج ومشكلاته المتناوبة، حتى قامت الثورة فارتبط الصهر بميليشيا موالية للنظام. وفي أحد الأيام فجّرت عبوة ناسفة سيارته واتهمت الأجواء المحيطة به شقيق زوجته بتنفيذ هذه العملية. إذ كانت العائلة تميل إلى تأييد الثورة بالمعنى العام، لكن دون أن تصل إلى الاتفاق مع خيارات ابنها قائد التنظيم المتطرف.
غادر حازم إلى بلد عربي حيث حاول أن يستأنف حياة عادية. لكنه كان الأكثر حماساً بين الإخوة والأشد انفعالاً بما يجري في سوريا. ولعل هذا ما دفعه إلى الانخراط لاحقاً في مشروع أخيه الأصغر ولو بشكل موارب عبر حكومة الإنقاذ، من مدخل القضاء الذي يصف بعض المطلعين أداءه فيه بأنه «معقول» قياساً إلى سواه، ومن باب المحافظة على الميزانية التي تدرّها الهيئة العامة للزكاة بعدما مكّنت لجانها في مناطق حكومة الإنقاذ، وصارت معوناتها تشمل أربعين ألف عائلة، كما قالت.
وإذا كانت الوظيفة الأولى مما يمكن أن يقوم به العديد فإن الائتمان على جزء من المال، في المهمة الثانية، أمر طالما فضّلت البنية التقليدية في المشرق تسليمه لأحد أفراد العائلة إن بقرابة دم أصلية أم بمصاهرة، وسواء أكان «العمل» إنشاء سوبر ماركت أو تأسيس دويلة سلفية جهادية مغامِرة في إدلب!!!