أعلنت وزارة الدفاع التركية في العاشر من الشهر الجاري استكمال سحب السلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح بتصريح من الجبهة الوطنية للتحرير وصمت مطبق من قبل هيئة تحرير الشام وباقي الفصائل الجهادية في إدلب، التي يبدو واضحاً من الإعلان التركي أنها تعاونت لسحب سلاحها الثقيل، وبهذا بقي لتركيا وفق الجدول الزمني المتفق عليه مع روسيا 3 أيام فقط لتنفيذ البند الثاني الأكثر تعقيداً والذي يمثّل المؤشر الحقيقي لنجاح اتفاق سوتشي.
ورغم أن البند الأول المتمثل بسحب السلاح الثقيل كان واضحاً للسوريين بأنه وبحسب الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير عبارة عن عملية شكلية بحكم أن السلاح الثقيل موجود أساساً في الخطوط الخلفية للجبهات، إلا أن تفاصيله حول تحديد الأسلحة الثقيلة التي سيتم سحبها ومكان المنطقة منزوعة السلاح التي تبين أنها ستكون بالكامل في منطقة سيطرة المعارضة وأنه لن تكون هنالك دوريات روسية في المنطقة؛ بقيت غامضة حتى أيام قليلة من بدء تنفيذه. فبالتالي ستكون التفاصيل حول البند الثاني المتمثل بانسحاب التنظيمات المصنفة إرهابياً أكثر غموضاً.
وبدون أية معلومات أو مؤشرات عن الأسلوب الذي ستتبعه تركيا لإجبار التنظيمات الجهادية مبدئياً على الخروج من المنطقة منزوعة السلاح ومن ثم حَل هذه التنظيمات، تبقى الخيارات مفتوحة على مصراعيها ويبقى بيت القصيد في هذه المهمة هو إيجاد حل مناسب للمقاتلين الأجانب في المنطقة.
إلا أن المؤشرات الميدانية تقودنا إلى وجود قبول ضمني للتنظيمات الجهادية لاتفاق سوتشي في ظل عدم إعلان رفضهم الصريح له، وذلك في هذه المرة يعود إلى قلة الخيارات أمام هذه التنظيمات وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي وقعت تحت ضغط تركي بتصنيفها تنظيماً إرهابياً، وعدم وجود أي بقعة جغرافية تؤويهم سوى هذه المنطقة، وعدم قدرتهم على الرفض وبالتالي تحمّل المسؤولية الكاملة لفشل التهدئة في إدلب وبداية المعركة النهائية الحاسمة.
استثمار الخلافات
تتعامل تركيا الآن مع هيئة تحرير الشام التي تقودها تيارات مختلفة فيما بينها خاصة بعد التغييرات التي خاضتها الهيئة خلال السنوات الماضية للتماهي مع المتطلبات المحلية والدولية، وفي كل مرة كان التيار الرافض لبراغماتية "أبو محمد الجولاني" هو التيار الأشد تطرفاً والمكون من قيادات أجنبية مرتبطة مسبقاً بتنظيم القاعدة، وبعد أن خلع الجولاني البيعة عن تنظيم القاعدة انشق العدد الأكبر من هذه القيادات عنه ( خاصة التيار الأردني) وشكلوا تنظيم "حراس الدين" مستخدمين اسماً يوحي لمن يرفض تقلبات الجولاني بأنه المستقر المناسب لهم ببيعة غير معلنة لتنظيم القاعدة، وهو التنظيم نفسه الذي أعلن رفضه لاتفاق سوتشي.
بعد الانشقاقات العديدة أصبحت صفوف القيادات السورية والأجنبية في هيئة تحرير الشام أقل تمايزاً وأكثر ولاء للجولاني، وهذ الأمر قد يكون مفتاحاً بيد المخابرات التركية للعب على الخلافات واستعمال التنظيمات الأقل تطرفاً لضرب التنظيمات الأكثر تطرفاً، خاصة أن عدد "حراس الدين" لا يتجاوز الـ 800 عنصر بدون سلاح ثقيل ويسيطر على بقعة جغرافية صغيرة في المنطقة، كما أن الحزب الإسلامي التركستاني لا يمكن اعتباره تنظيماً معادياً لتركيا.
السيناريو الأكثر ترجيحاً
وضمن هذه المعطيات الداخلية فإن تركيا في حال كسبت قراراً مركزياً متعاوناً معها في الهيئة بعد أن تطلق الأخيرة اسماً جديداً لنفسها بواجهة من القيادات غير الأجنبية وغير المصنفة إرهابياً، سيؤدي ذلك إلى ردة فعل لدى التيارات الأكثر تطرفاً والرافضة لاتفاق سوتشي داخل الهيئة نفسها وفي التنظيمات الأخرى، لتشهد المنطقة وفق ذلك حالة اصطفاف بين قطبين داخل التنظيمات الجهادية وقد تدفع تركيا الطرف الأكثر اعتدالا لضرب التيارات الرافضة للاتفاق إلى جانب الجبهة الوطنية للتحرير والجيش الوطني، وإظهار هذا الفصيل الجديد بأنه فصيل معتدل ويحارب الإرهاب، الأمر الذي سيساعد على إخفاء الآثار القديمة للهيئة، لكن قبول كل ذلك مرهون بمدى تجاوب روسيا مع تركيا بحيث تقتنع بأن التشكيل الجديد للهيئة لن يكون نوعا من المراوغة والمخادعة.
وبالأساس يمكن تفسير صمت تحرير الشام حول اتفاق سوتشي بأنه نوع من كسب الوقت والمراهنة على أي تغييرات قد تطرأ على بنود الاتفاق أو حتى المراهنة على فشل التفاهم بين روسيا وتركيا، وحتى التكتيك المتوقع بتغير الاسم وإبعاد القيادات الحالية من الواجهة سيعطي تحرير الشام وقتاً إضافياً حتى يتم تصنيفها بشكل رسمي من قبل الدول المعنية وتحديداً روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا نفسها، وهنا أيضاً ستتمكن تحرير الشام من كسب وقت إضافي أيضاً في حال صنفت روسيا الاسم الجديد ضمن لوائح الإرهاب ولم تقم بذلك تركيا، ما سيعرقل الاتفاق أو يفشله.
هذا السيناريو مرتبط بشكل كبير بمدى قدرة تركيا على إعطاء ضمانات بعدم المساس بالمقاتلين الأجانب لدى هيئة تحرير الشام والسماح لهم بالبقاء مع عوائلهم في المنطقة بدون أن تكون لهم أي أدوار ظاهرة في أي فصيل عسكري، طبعاً ذلك لأن تركيا تعلم جيداً أنها لن تجد تعاوناً من قبل دول هؤلاء المقاتلين لإرجاعهم إليها بعد أن أبدت هذه الدول عدم تعاون مع قوات التحالف حول الأسرى الأجانب من تنظيم الدولة في سجون قوات سوريا الديمقراطية "قسد" شمال شرق سوريا، رغم العلاقة الجيدة التي تربط هذه الدول مع الولايات المتحدة وقدرة الأخيرة على الضغط لأن تقبل هذه الدول بذلك.
آخر الدواء الكي
في المستقبل القريب يبدو أن تركيا ستأخذ وقتها كاملاً لتجنّب مواجهة مباشرة مع التنظيمات الجهادية لأن ذلك سيترتب عليه تبعات محلية بوقوع خسائر بشرية في صفوف المدنيين الذين تنتشر بينهم هذه التنظيمات بشكل كبير، وعمليات اغتيال وتصفيات تقوم بها خلايا هذه التنظيمات، وتبعات قد تطال تركيا باعتبار أن هذه التنظيمات أساساً تتمركز في المناطق الحدودية شمال غرب إدلب حتى جبلي التركمان والأكراد في الساحل السوري.
لكن بعد أن دخلت عشرات الآليات العسكرية التركية إلى إدلب بات السلاح التركي جاهزاً في حال فشل التفاهم مع تحرير الشام لشن هجوم شامل على مواقع كل التنظيمات الرافضة للاتفاق، رغم ما سيترتب على ذلك من خسائر، إلا أنها ووفق وجهة النظر التركية لن تكون بقدر الخسائر المترتبة على فشل اتفاق سوتشي وهجوم النظام وروسيا على المنطقة.
وبذلك سيكون آخر الدواء الكي بالاستعانة بالجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير التي خاضت الفصائل المنضوية تحتها أساساً معارك طويلة مع تحرير الشام خلال الفترة الماضية، وإن مشاركة قوات برية تركية في المعركة سيعطيها جدية أكبر، الأمر الذي قد يدفع بالقسم الأكبر من العناصر السوريين في هذه التنظيمات بترك السلاح واعتزال القتال وفق ما يرجحه البعض.
ورقة تحرير الشام حان وقتها
لم تتدخل تركيا عندما كانت الفرصة سانحة بشكل كبير في نسيان الماضي عندما أصبح موقف هيئة تحرير الشام في أضعف حالاته على الإطلاق بعد أن اشتدت الاشتباكات بينها وبين الفصائل العسكرية للمعارضة، حينها سعت تركيا لتهدئة الاقتتال لتتمكن من إقامة نقاط المراقبة غرب حلب. كان واضحاً حينها عندما لم تستغل تركيا الفرصة المناسبة للقضاء على تحرير الشام أن الوقت لم يحن لاستخدام هذه الورقة، في حين أنها اليوم كانت (هذه الورقة) سبباً في أن تفرض تركيا نفسها على الجميع بأنها تمتلك مفاتيح الحل ولو كان سيلقي ذلك على عاتقها كاهلاً كبيراً.
الجدير بالذكر أن الثقة بين تركيا وروسيا ستكون عاملاً مهماً لأن تقوم تركيا بتفكيك هذه التنظيمات أو القضاء عليها، وذلك لأن هذه التنظيمات تعتبر بشكل أو بآخر مكسباً عسكرياً لتركيا في الضغط على روسيا وحلفائها.
الآن، وفي كل السيناريوهات المتوقع حدوثها استفادت تركيا بشكل كبير بتعزيز وجودها في المنطقة، وباتت نقاط المراقبة الـ 12 أقرب ثكنات عسكرية، مدعمة بمئات الآليات العسكرية المنتشرة على طول الحدود، ومستعدة للتعامل مع مختلف السيناريوهات التي ستتوضح تباعاً قبل نهاية العام الجاري.