قبل الثورة العربية الكبرى 1916، كانت القوات العثمانية في الحجاز موجودة على شكل حاميات متفرقة في المدن الرئيسية ومحطات سكة الحديد الحجازية، ومجموعة متباعدة من المخافر على طول السكة الحيوية التي تنقل السلاح والرجال والمؤن، وكانت هناك حامية عثمانية قوية وكبيرة في المدينة، وحامية أخرى أقل قوة في مكة حيث يوجد الشريف حسين، ومجموعة عسكرية أخرى في الطائف على مقربة من مكة، ولكن الأولوية بالنسبة للشريف حسين وحلفائه، كانت للسيطرة على مكة وجدّة التي تشكل بوابة بحرية يمكن أن يستعملها البريطانيون القادمون من مصر، وكان الاعتماد على السكة الحجازية كاملا في عمليات النقل والدعم اللوجستي، وجميع الأطراف تدرك أهمية هذه السكة، وأهمية السيطرة عليها أو تحييدها، فالمخافر العثمانية المتقدمة تعتمد عليها في التموين وتبديل القوات، وإيصال الذخائر والمعلومات، وقد شكلت هذه السكة منذ إنشائها شريانا مهما يبث مزيدا من الحياة في الصحراء القاحلة مترامية الأطراف، والتي تميزت بوجود أكبر وأقدس مكانين روحيين للمسلمين وهما مكة والمدينة.
بدأ الشريف حسين بحامية مكة التركية، فباغتها وهجم بما يملكه من قوات العشائر وبعض المتطوعين، وبالسلاح الذي حصل عليه من حلفائه الجدد، وأحكم الحصار حول قوات الحامية التي دافعت عن نفسها برميات المدافع الموجود في حوزتها. يقول عبد الله بن الحسين في مذكراته بأن إحدى القذائف طالت إحدى الأروقة التي تحاذي الحجر الأسود فسقطت على اسم عثمان بن عفان. ويتابع القول بأن ذلك كان إشارة خفية إلى زوال ملك العثمانيين.. استطاع الشريف بعد مقاومة شديدة أن يتغلب على الحامية التي كانت تعد أكثر من ألف رجل، بينما كانت السفن العسكرية البريطانية تطلق قذائفها من البحر نحو جدة الأمر الذي سرع استسلامها وسقوطها هي الأخرى، ومعها عدد كبير من المدافع الصالحة للاستعمال، وكان سقوطها نقطة فاصلة أولية في الحرب التي بدأت للتو، وبسقوط جدة فتح الباب للولوج إلى كل مدن الساحل الشرقي من البحر الأحمر، وفي الوقت ذاته جهز الشريف حسين مجموعة أخرى وضع على رأسها ابنه عبد الله ووجهها نحو الطائف، وقد قدر أن سقوط المدينتين في يديه يؤمن له قاعدة انطلاق واسعة ومريحة، وقد يكسب الوقت قبل أن يلتقط الترك أنفاسهم ليتجمعوا في "المدينة" التي يمكن أن تكون منطلقا لهجوم معاكس مرتقب يقوم به الأتراك مع حلفائهم الألمان. نجحت الحملتان في مكة والطائف، فقد استطاع عبد الله أن يحاصر الطائف دون أن يتمكن من دخولها إلا بعد وصول الكثير من الإمدادات البريطانية والكثير من المدافع والبنادق الحديثة، فسقطت الطائف بيد عبد الله ومعها ثلاثة آلاف رجل كانوا حاميتها، بعد أن تواجه عبد الله بن الحسين مع غالب باشا، قائد الحامية التركي، في الطائف وكان عبد الله قد نزل ضيفا على غالب باشا على سبيل التمويه قبل بداية الحملة، تألم غالب باشا عند مقابلته عبد الله قائلا "كنت واثقا بأن الأمتين التركية والعربية ستنفصلان ولكن ليس بهذه الطريقة".
أدى توسع العمليات القتالية وتعدد جبهاتها إلى تشكيل عدة جيوش على عدة محاور ليسهل التعامل مع أرض المعركة، فقاد فيصل الجيش الشمالي، الذي تمسك بساحل البحر الأحمر على الجانب الحجازي، وتحرك مخترقا المدن الساحلية بصعوبة وبطء ما يعكس شيئا من رداءة التنظيم وقلة التسليح وقوة مقاومة الطرف الآخر.
يقول لورنس، الضابط في الجيش البريطاني وعالم الشرقيات الذي ساعد العرب ضد العثمانيين، بأن الطريق لم يكن سالكا ولم يكن التقدم بتلك السهولة فقد كان الجيش الشمالي بقيادة فيصل يعاني بشدة في تقدمه البطيء على مدن الساحل فيتقدم قليلا ويتقهقر أحيانا، ويعمد إلى ما يشبه حرب عصابات يهاجم فيها مؤخرات التجمعات التركية ليكسب قليلا من المؤن والمعدات.. كان النقص يشمل كل شيء المعدات العسكرية والطعام والأسلحة وقد صرخ فيصل بصوت عال أمام الكولونيل ويلسون عندما التقاه في مدينة ينبُع التي دخلها للتو مشتكيا النقص، فتأثر ويلسون لحال الجيش الفيصلي وأمده بمعدات قديمة وغير صالحة مما ضاعف من المعاناة التي كان يشعر بها.. في الواقع لم يكن النقص مشكلة فيصل الوحيدة فقد تركه أخواه في أتون الحرب وعادا إلى مكة حيث المنطقة أكثر أمنا، ورغم ذلك يقول لورنس بأن عزيمة فيصل لم تهن وكان مصمما على متابعة القتال، ومؤمنا بالنصر على الجيش العثماني.
كانت هذه هي الزيارة الثالثة للورنس العرب إلى المنطقة فقد قام بزيارتين سابقتين نزل فيهما في بيروت وتجول في المنطقة سيرا على الأقدام، وقد أبدا صبراً وقوةَ تحمل نادرين وهو يجوس متنقلا من مكان إلى مكان على طريقة النساك والزهاد، يطرق الأبواب بشكل اعتباطي فيطعمونه وينام عندهم ويسجل كل شيء بدأب وتحمل وشغف، جال بشكل خاص على القلاع التي بناها الصليبون عندما كانوا في المنطقة، وتحول في مدن الساحل وتعرف إلى السكان، ولم يجد غضاضة في ارتداء الملابس المحلية وامتلاك مقدرة جعلته يتكلم اللغة العربية بشكل طليق وواضح، انتدب ليكون على مقربة من فيصل بن الحسين ويقدم له المشورة العسكرية، فأبدا اعتراضا طفيفا في البداية وشرح لرؤسائه نفوره من العمل العسكري، وهو يفضل أن يبقى في عمله محررا للنشرة العربية، ولكنه يقول بأن رئيسه أصر عليه للذهاب والبقاء بجوار فيصل فالقيادة البريطانية في مصر بحاجة ماسة لتعرف ما يجري، ويجب أن تبقى على اطلاع بكل احتياجات فيصل، وعندما وافق لورنس على الذهاب كان فيصل يحاول تثبيت أقدامه العسكرية في ميناء مهم على شاطئ البحر الأحمر في مدينة ينبُع، وهناك تبدأ قصة مشوقة للرجل الذي يُعرف بلورنس العرب الذي لم يتخل عن الكوفية والعقال حتى دخل بهما دمشق.