يتعرض أنصار الثورة السورية لاختبار سنوي، في ذكرى انطلاقتها، يطلب منهم تقديم جردة حساب عن أعوامها التي تتطبّق بثقل واحداً إثر آخر فيما يتراجع وضع البلاد، في كل مناطق السيطرة المختلفة، إلى حال لا ينفع معها التجاهل طويلاً ولا تعد بحل قريب.
في مواجهة ذلك اختار عدد من الفاعلين التحرر من الأمل تباعاً. فسلّموا بهزيمة الثورة استناداً إلى حقيقتين أساسيتين؛ أولاهما عجزها عن إسقاط النظام بعد أن أعلنت أن ذلك هدفها المركزي، والثانية فشلها في تقديم نموذج فعلي لحكم بديل يبلور شعاراتها الجذابة في مناطق سيطرتها. وفي المقابل يتمسك ناشطون آخرون بصلاحية هذه المبادئ، حتى وإن حاصرتها هياكل الاستبداد المتعددة التي لم تعد تقتصر على النظام، مراهنين على «قوة الحق» التي تكتنزها القيم، دون أن يعصمهم ذلك من شبهة التعنت الثوري وإنشائيته عندما لا يسعفهم الواقع الكالح بأدلة تبعث على التفاؤل.
غير أنه من حسن حظ هؤلاء، وجمهور الثورة عموماً، أن مؤشر السنوات لا يسير دوماً نحو الأسوأ. ففي امتحان هذا العام كثير مما يمكنهم الارتكاز عليه كما تدل، مثلاً، التظاهرات التي خرجت يوم الجمعة الفائت، المصادف 15 آذار.
مهما قيل عن دوافع قيادة «الهيئة» للتستر برموز الثورة، وهو صحيح، فإن النتيجة العملية هي أن هذه الجماعة، بعد أن فككت الكثير من فصائل الثورة وخوّنتها وكفّرتها، اضطرت أخيراً إلى تبني شيفرتها بالتدريج
فمن جهة أولى أبرزت التظاهرة الكبيرة، في ساحة السبع بحرات بإدلب، حضوراً مهيمناً لعلم الثورة الأخضر. وإذا لاحظنا أن «هيئة تحرير الشام» وأذرعها هم الجهة الداعية لهذه التظاهرة أمكن أن نقدّر وزن هذا العلم وما يمثله حتى اضطرت «الهيئة» إلى الانضواء تحته بعد أن كان أسلافها في «جبهة النصرة» يتشفّون بانتزاعه عن الساريات ودعسه تحت الأقدام لصالح رايتهم الخاصة. ومهما قيل عن دوافع قيادة «الهيئة» للتستر برموز الثورة، وهو صحيح، فإن النتيجة العملية هي أن هذه الجماعة، بعد أن فككت الكثير من فصائل الثورة وخوّنتها وكفّرتها، اضطرت أخيراً إلى تبني شيفرتها بالتدريج.
ناهيك عن التظاهرة الإدلبية الموازية التي نُظِّمت في ساحة الساعة بالمدينة، وفي عدد من مدن وبلدات ريفها، ضد هيمنة «الهيئة». فكانت أقرب إلى شعارات الثورة في المضمون، بالدعوة، بعد قليل من الترجمة، إلى تداول السلطة وحكم القانون والعدالة واحترام حقوق الإنسان، كما هو هدف الاحتجاجات التي تتهم قيادة «الهيئة» بالتسلط مؤخراً.
أما المناطق التي تسيطر عليها «الحكومة السورية المؤقتة» و«الجيش الوطني» فلا تتوقف فيها التظاهرات الحرة التي ترفع شعارات ضد الفوضى الفصائلية التي تخرج عن أي قانون في الغالب. ورغم البطء الشديد في إنجاز تحول ذي بال في هذا الشأن فإن التأكيد الدائم على المسار الصحيح، الذي يتضمن بناء حكم منظم، ما زال يمنح المحتجين شرعية رفض «الزعرنات» التي صارت محل تبرؤ فاعليها المتبدلين في كل مرة، وهي في طريقها الصعب إلى التناقص.
وقد أضافت السويداء إلى جردة هذا العام نكهتها الخاصة. ولا سيما بعد أن وصلت الاحتجاجات فيها إلى الانضواء تحت علم الثورة، مع بعض بيارق الحدود الخمسة المحلية، كما بدا من تظاهرات يوم الجمعة نفسه. وغاب العلم الرسمي الأحمر بعد أن كان يعني لبعض المحتجين توازناً ضرورياً وتأكيداً على الهوية الوطنية. في ما يبدو أنه قناعة وصلت إليها المحافظة بأنه لا ثورة موضعية دون اندراجها في الحراك العام الذي انطلق قبل ثلاثة عشر عاماً وجرى الاحتفال بذكراه في ساحة الكرامة بالسويداء.
وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الإحساس الأعمق بحتمية التغيير كان في مناطق لم تشهد أي تظاهرة لتحيته ورفع علمه، وهي مناطق حكم بشار الأسد التي تشهد ما لا يقل عن احتضار مديد. فبعد سنوات خدّاعات من وهم قدرة النظام على قمع الثورة مستخدماً وحشيته المعروفة، وأعوام أخرى من أوهام الإفلات من تبعات هذه الجريمة في المجتمع الدولي بالاستعانة بالحلفاء الروس والإيرانيين، وحلم ليلة صيف بدعم اقتصادي عربي؛ وجد سكان مناطق النظام أنفسهم أمام واقع مرّ دون أفق. وسواء أكانوا من مواليه أو معارضيه أو من الرماديين فقد رسّخت السنوات القليلة الماضية قناعتهم بأنه لن يستطيع إدارة شؤون البلاد بالحد الأدنى الكافي لتأمين الحاجات والخدمات الأساسية. ومن جهته لم يقصّر بشار الأسد، بـ«صراحته» المعتادة، في إخماد أي آمال في تحسن الأوضاع المعيشية كلما أتيح له ذلك. تاركاً لرعاياه الرضا بالنصيب أو دخول السجن ومواجهة مصير سابقيهم، وللفضائيات الخارجية أن تزفّ لهم أن رئيسهم صار تاجر كبتاغون.
رغم أن المهزلة الأسدية بمفاعيل مأساة فإن الثورة السورية، التي لم تنجح، لم تفشل أيضاً. وهي لن تهزم مع أنها لا تملك من مقومات النجاح إلا قوة الحق وبعض المساعي الطيبة المتناثرة
وفي إطار أوسع يمكن سحب أجزاء مما قيل آنفاً عن سوريا على مسار الربيع العربي كله. فبعد أن رصّ أعداؤه صفوفهم استطاعوا تطويقه ولكن بفجاجة من القمع العاري والرشاوى السياسية والشخصيات الركيكة. وبمقارنة حال النظام العربي، قبل هزّة الربيع الجذرية، بوضعه اليوم؛ نقرأ تمثيلاً فعلياً للمقولة المنسوبة إلى ماركس: «يعيد التاريخ نفسه مرتين؛ مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة».
ورغم أن المهزلة الأسدية بمفاعيل مأساة فإن الثورة السورية، التي لم تنجح، لم تفشل أيضاً. وهي لن تهزم مع أنها لا تملك من مقومات النجاح إلا قوة الحق وبعض المساعي الطيبة المتناثرة، وصلف الخصم الذي جعل من أمر بقائه احتمالاً يصعب أن يتعايش معه أحد.