يبدو أنَّ انتهاج سياسة زرع الخوف وتكريس نظريَّة الشَّك وعدم الثِّقة بين النَّاس سياسةٌ ليست وليدة المرحلة الرَّاهنة، خاصَّةً بعد أن ارتفعت مطالب المتظاهرين في سوريا من المطالبة بالحريَّة إلى إسقاط النِّظام برمَّته، فهي استراتيجيةٌ اتَّبعها النَّظام منذ سنواتٍ طويلةٍ بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي على يد الأسد الأب واستمرَّت حتَّى عهد وريثه، لقد كانت سياسة القمع ولا تزال تسعى إلى إدخال الرُّعب في نفوس النَّاس وتوطيد الشَّك وعدم الثِّقة حتَّى داخل الأسرة الواحدة، إلى أن عشعشت في البناء الفكريِّ للشَّعب السُّوريِّ، فالخوف المتجذِّر في النُّفوس من القتل والتَّعذيب والاغتصاب والتَّنكيل، كلُّ ذلك دفع إلى الاعتقاد بأنَّه على المواطن أن يلتزم بالمثل الشَّعبيِّ القائل "على قد بساطك مِدْ رجليك"، ليتغيَّر المثل الشَّعبيُّ على يد هذه السُّلطة فيصبح "على قَدْ بساطك سنمدُّ لك رجليك" كما لو أنَّ هذا المواطن قد غالط سرير بروكرست، فهذا الواقع القائم الذي طغى عليه واقع الاستلاب والتَّسيس والقولبة الفكريَّة جعل الفرد مغترباً عن ذاته أوَّلاً وعن العالم من حوله ثانياً.
الاعتداءات الوحشيَّة والممارسات الشَّاذة التي تمَّ تلقينها للفكر المكرَّس من قِبَل السُّلطة تعدُّ نوعاً من الانتقام المبرَّر تجاه أشخاصٍ تجرَّؤوا على الخروج على الإطار الأيديولوجيِّ للسُّلطة الحاكمة
إنَّ محاولة أدلجة التَّفكير الشَّعبيِّ، بكلِّ مستوياته، وبما ينسجم وصالح السُّلطة، وتعبئته بمفهوم المقدَّس، يصنع فكراً متصلِّباً، معاقاً عن التَّفكير، فزرْعُ فكرة تأليه الرَّئيس يعود بنا إلى زمن ما قبل الحضارات، حين كان الرَّئيس هو الإله أو الرَّب أمَّا أفراد الشَّعب كانوا عبيداً له، لقد سعى النِّظام إلى جعل شخصيَّة التَّابعين له شخصيةً مؤدلجةً حسب نظامٍ محدَّدٍ ولو عمَّقنا الإضاءة على ذوات هؤلاء من الدَّاخل لوجدنا العديد من المفاهيم المحاطة بطقوسٍ مقدَّسةٍ لا يمكن المساس بها حتَّى بمجرَّد التَّفكير فـي ماهيَّتها أو التجرُّؤ على نقاشـها، ممَّا ولَّد نوعاً من الشُّعور بالذَّنب تجاه أيِّ سلوكٍ يخالف ما تمَّ تعبئته من قِبَل النِّظام، ومن ثمَّ يتحوَّل هذا الشُّعور إلى التَّعنيف الذَّاتي لو تجاسر على الخروج عن السِّياق والتَّمرُّد على القطيع، وكأنَّه ذنبٌ لا يمكن أن يُغتفر، وعندما يتجاوز الأفراد هذه الرَّقابة الذَّاتيَّة الصَّارمة فإنهم سيصطدمون برقابةٍ أخرى هي الخوف من الآخر ضمن نظامٍ استخباراتيٍّ تمَّ بثُّه في كلِّ مكانٍ، إنَّ ما يحمله هؤلاء من تناقضاتٍ عميقةٍ بين الأنا والهو (اللاشعور) من جهةٍ، وبين الأنا والآخر من جهةٍ أخرى، هو ما يسعى النِّظام إلى المحافظة عليه راسخاً بشكلٍ لا يدع مجالاً للشَّك أن يتسرَّب إلى نفوس تابعيه.
ومن أجل ذلك فإنَّ النِّظام سعى إلى تعزيز مفهوم الوصول إلى الغاية مهما كانت الوسيلة "الغاية تبرِّر الوسيلة"، فالاعتداءات الوحشيَّة والممارسات الشَّاذة التي تمَّ تلقينها للفكر المكرَّس من قِبَل السُّلطة تعدُّ نوعاً من الانتقام المبرَّر تجاه أشخاصٍ تجرَّؤوا على الخروج على الإطار الأيديولوجيِّ للسُّلطة الحاكمة، ودليلاً على إثبات وجود السُّلطة وحضورها الدَّائم من خلال ترك أثر الإذلال والعار على الضَّحية أو ذويها، كانتهاك حرمة الأموات بالاعتداء على أجساد الموتى، والتَّمثيل بهم، أو ممارسة الجنس مع الذُّكور داخل السُّجون، أو ممارسة الاعتداء الجنسيِّ بشكلٍ جماعيٍّ على جسدٍ واحدٍ.
إنَّ السُّلطة في سوريا وقعت في صراعٍ وجوديٍّ بينها وبين الآخر، فهي تحاول إزالة فكرة الآخر المختلف، فالآخر يجب ألَّا يبقى له وجودٌ، يجب أن يمَّحي؛ لأنَّه سيكون عدوَّاً في الحاضر وفي المستقبل أيضاً، وأنَّ وجود أيِّ طرفٍ يرتبط بانعدام وجود الآخر، لذلك فإنَّهم كانوا يسعون إلى إبادة الآخر المختلف دون شفقةٍ أو رحمةٍ، فكان التَّركيز على هذه الفكرة من خلال مقولة "إن لم تقتلوهم سيقتلونكم"، فالمسألة لدى السُّلطة في سوريا هي مسألة وجود أولاً وأخيراً.
وترتبط فكرة القائد بالأبديَّة والخلود فالقائد يسعى إلى تكريس مفهومين هما الأبوَّة والخلود (الأب القائد الخالد)، وقد تمَّ التَّأسيس لفكرة الخلود من خلال ربط فكرة الخلود بأساطير الخلود في الميثولوجيا التَّاريخيَّة، وكأنَّ الأسد هو جلجامش هذا العصر، الباحث عن الخلود الأبديِّ، وبذلك ارتبط المفهوم السِّياسيُّ الذي يتضمَّن معنى احتواء القائد لشعبه ومسؤوليَّتهم تجاهه بالمفهوم الدِّينيِّ، والذي يحيل على أنَّه القادر والمتحكِّم بمصائرهم موتاً وحياةً، وأنَّ الشَّعب يدينون له بالسَّمع والطاعة. وعلى الرَّغم من أنَّ رأس النِّظام كان يدرك أنَّه سيفنى لا محالة إلَّا أنَّه كان يحارب فكرة الفناء بكلِّ ما أوتي من سطوةٍ، ليس فقط بتسطير خلوده داخل صفحات الكتب، وفي الشعارات والهتافات، بل قد راقت له فكرة صنع تماثيل له ووضعها في كلِّ مكانٍ، وبث الرقباء بعد ذلك في تلك الأمكنة لرصد ردَّة فعل النَّاس تجاه تلك التماثيل التي لا تخلو مدينةٌ سوريَّة منها حتَّى أصبح النَّاس يخشون أن ينظروا إلى الأماكن التي تحتلُّها التِّماثيل خشية أن يودي بهم قلم أحدهم إلى ما وراء الشَّمس، وبهذا ارتبطت فكرة الخلود والأبديَّة بالخوف المتجذِّر عند الشَّعب.
أصبحت العبوديَّة التي يسعى النِّظام إلى تطبيقها على الشَّعب عبوديَّةً مع كامل الطَّاعة، ومن دون أن يُعمِل أحد هؤلاء المنساقين عقلَه للتَّفكير في العلاقة الصحيَّة بين القيادة والشَّعب
لقد تمكَّنت فلسفة التَّدجين من بعض فئات الشَّعب في سوريا، وذلك من خلال نشر سياسة التَّخويف، وتنفيذ الإبادات الجماعيَّة، والاعتقالات التَّعسفيَّة، وكمِّ الأفواه ومصادرة الحريَّات، وإرهاق كاهل الشَّعب بتأمين حياته اليوميَّة، فأصبحت العبوديَّة التي يسعى النِّظام إلى تطبيقها على الشَّعب عبوديَّةً مع كامل الطَّاعة، ومن دون أن يُعمِل أحد هؤلاء المنساقين عقلَه للتَّفكير في العلاقة الصحيَّة بين القيادة والشَّعب، فالأمر لا يرتبط بالتَّفكير فقط في تلك العلاقة، بل إنَّ فكرة العبوديَّة أصبحت بحدِّ ذاتها فكرةً مخيفةً، إذ قد يمتلك بعض الأفراد حريَّتهم لكن بسبب بهذه العبوديَّة المتجذِّرة في نفوسهم فإنَّهم سيسعون دائماً الى من يستعبدهم من جديد، لذا فهم يرفضون حريَّتهم، ويتمسَّكون بتلك العلاقة القائمة على التَّسيُّد والعبوديَّة؛ لأنَّها تأصَّلت في لاوعي هذا الشَّعب، وبدل أن يثور عليها ويرفضها، بات يدافع عنها ويتمسَّك بها، وبذلك لا يمكن أن يتجاوز هؤلاء الأفراد واقعهم القائم إلى أيٍّ وعيٍ ممكنٍ في المستقبل القريب أو البعيد، بل إنَّ التَّفكير بذلك الممكن بحدِّ ذاته يرعبهم كما يرعب نظامهم الذي يتمسَّكون به.