ينتمي ألكسندر بروخانوف إلى نوع طريف من الأدباء. فقد درس هندسة الطيران ثم عمل في الصحافة التي قادته إلى التجوال في أرجاء بلاده الفسيحة، آنذاك، الاتحاد السوفييتي، وموفداً رسمياً إلى العديد من النقاط الساخنة في العالم.
قرّر التعبير عن آرائه العامة بالقصة والرواية، ولم يكن هذا بعيداً عن الأدب الملتزم الذي بشرت به الواقعية الاشتراكية التي تولت منابر حكومية تصديرها، كمجلة "الأدب السوفييتي" التي ترأس تحريرها بروخانوف نفسه وكانت تُطبع بتسع لغات. عام 1991، الذي شهد نهاية الاتحاد السوفييتي، تعرّف الكاتب المخضرم إلى مثقف شاب سيكون له شأن هو ألكسندر دوغين الذي يوصف بأنه المنظّر الأبرز للبوتينية. معاً، وكلاً على حدة، سيعمل الاثنان على ترسيخ النزعة القومية الروسية المحافظة المناهضة للغرب.
منذ قرابة ثلاثين عاماً يرأس بروخانوف تحرير صحيفة زافترا Zavtra (غداً) التي يصفها بعضهم بالستالينية الهتلرية، ويواظب على إصدار الكتب التي تجاوزت الثلاثين، وتدرجت من تصوير القرية الروسية بطقوسها وأخلاقياتها القديمة، وعرض مشكلات المجتمع السوفييتي وقتئذ، إلى نموذج من الرواية العسكرية السياسية التي استخدم فيها معارفه ومشاهداته في رحلاته، كما في أثناء التدخل الأحمر في أفغانستان.
في صيف 2011 زار بروخانوف دمشق ضمن وفد من الخبراء. وصرّح بعد ذلك لقناة "روسيا اليوم" أنه توجد في سوريا أربعة محاور تستند إلى قوى مختلفة:
- الأولى هي المعارضة السلمية التي تعتمد على المثقفين وهي "العنصر الأساسي في التظاهرات التي تشهدها البلاد".
- أما الثانية فهي المعارضة المسلحة التي تضم "المقاتلين القادمين إلى سوريا عبر الأراضي اللبنانية والعراق ويعتمد هؤلاء على الأيديولوجية الإسلامية المتطرفة، وهم عادة ما يتمركزون على أسطح المنازل ويطلقون النار على المتظاهرين ورجال الأمن في آن واحد"، قائلاً إن الخبراء العسكريين وجدوا بقايا شظايا وأعيرة نارية "من الأسلحة الأجنبية القادمة من الخارج".
- القوة الثالثة هي "القيادة السورية برئاسة بشار الأسد الذي يحاول اليوم تطبيق الإصلاحات السياسية التي وعد بها وآخرها الإسراع بتبني دستور جديد للبلاد يعتمد على التطور الديمقراطي".
- في حين تتمثل القوة الرابعة في الحرس القديم من المسؤولين المحافظين في مؤسسات الدولة، الذين يخافون من فقدان مصالحهم نتيجة مثل هذه الإصلاحات ويحاولون عرقلة تطبيقها.
أما بشأن مواقف القوى الخارجية فقد رأى بروخانوف أن هناك حرباً إعلامية مدعومة من دول تريد تغيير النظام في سوريا، وثمة أخرى "متزنة" كالموقف الإيراني والصيني والروسي، معرباً عن أمله في أن بلاده "لن تكرر أخطاءها التي ارتكبتها في ليبيا" بالسماح بالتدخل العسكري لإسقاط النظام.
في عام 2016 أصدر بروخانوف روايته "المستشرق" التي تناولت المسألة السورية وجوارها، والتي وجدت طريقها إلى اللغة العربية كأول كتاب يترجم إليها لهذا الروائي المؤثر في سياسات بلده. صدرت الرواية قبل أشهر عن "الهيئة العامة السورية للكتاب" الرسمية في دمشق بترجمة د. نزار عيسى.
وقد جاء في كلمة الغلاف الأخير أنها تسلط الضوء على سعي عملاء المخابرات الغربية إلى تأمين قوافل الأسلحة "التي قطعت أوصال الأوطان، وهشمت عظام المدن، وحطمت الشعوب المعذبة". وأنها تتطرق إلى "دخول الشرق الأوسط في ثقب أسود، مما أفضى إلى تمدد رقعة تنظيم داعش الإرهابي"، واختفاء دول وثقافات ومعتقدات؛ "فاضطرت روسيا إلى رتق هذا الثقب، وخياطته، وسحب حواشيه على طول الحدود التركية من خلال تدخلها الشرعي في سوريا"، ليكون مستشرقنا جزءاً من هذه العملية.
تبدأ الرواية باستدعاء القيادة لليونيد توربف، عقيد الاستخبارات المتقاعد، وتكليفه بمهمة جديدة بالنظر إلى خبرته القديمة في المنطقة العربية ومعرفته الشخصية بفاروق نزار، الرائد السابق في المخابرات العراقية أيام صدام حسين، والذي أصبح رأس تنظيم "سيف الرسول" الذي يعرّفه الكتاب كأحد أخطر أذرع "الدولة الإسلامية" (داعش).
يهدف البحث عن نزار إلى التخلص منه بسبب مسؤوليته عن تفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء، في تشرين الأول 2015، مما أدى إلى مصرع أكثر من مئتي شخص كانوا فيها. وخلال رحلة الوصول إليه يستعرض الكاتب، بأسلوب لا ينقصه التشويق، مشكلات المنطقة عبر تنقل توربف باحثاً عن نزار الذي تمتد أعماله الإرهابية السرية في دول الشرق الأوسط وخارجها، وكذلك غطاؤها نصف الشرعي عبر شبكة لتجارة الآثار بين هذه المنطقة والعالم.
قبل الدخول إلى سوريا نتنقل مع توربف بين ليبيا ولبنان والعراق وإيران ومصر وقطاع غزة، حيث يستعيد علاقاته القديمة مع ضباط مخابرات أو قادة ميليشيويين. وفي كل من هذه المناطق نطلّ على مفردات الصراع القائم بين قوى متنوعة تجمع بينها كراهية الغرب وبين الأميركيين أساساً..
قبل الدخول إلى سوريا نتنقل مع توربف بين ليبيا ولبنان والعراق وإيران ومصر وقطاع غزة، حيث يستعيد علاقاته القديمة مع ضباط مخابرات أو قادة ميليشيويين. وفي كل من هذه المناطق نطلّ على مفردات الصراع القائم بين قوى متنوعة تجمع بينها كراهية الغرب وبين الأميركيين أساساً. ويسوّغ هذا العداء المسلح جمع تيارات متباينة في صداقة مع الممثل الروسي الذي طالما التقى، وفق الرواية المسيّسة، بمسؤولين أمنيين في حزب الله أو في حركة حماس، أو لدى نظامَي صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا، لإنجاز صفقات أسلحة. بل إن تنظيم الدولة نفسه يكاد يستحوذ على إعجاب الراوي/ المؤلف الذي يبدي تفهماً عالياً لظروف نشأته بعد الغزو الأميركي للعراق وافتتاح سجون مثل أبي غريب وغوانتانمو.
وهو يعبّر عن ذلك بقوله إن داعش "أثارت حلماً طال انتظاره عن العدل والكمال"، في وقتٍ يُعلي فيه كذلك من شأن الخميني الذي "غيّر مجرى التاريخ العالمي". وهكذا تبدو العدّة النظرية للبوتينية، مجدداً، أخلاطاً مما يمكن أن يفرزه "الشرق" من "خصوصية"، وربما وحشية، في مواجهة الغرب الذي يكفي عداؤه، من وجهة نظر مفكّري الكرملين الحالي، لتبرير كل انتهاكات خصومه.
خلال البحث عن نزار يجهّز توربف قصة مقنعة، وهي أنه موفد من هيئة أركان جيش بلده لإبرام اتفاق بين الطرفين تتوقف روسيا بموجبه عن استهداف "الدولة الإسلامية" في سوريا، مقابل تعهد تنظيم الدولة بإيقاف أي نشاط "إرهابي" على الأراضي الروسية وفي القوقاز وآسيا الوسطى. "لا يجوز أن يحارب بعضنا بعضاً"، كما يقول الضابط الروسي للضابط العراقي السابق حين اجتمعا أخيراً: "لدينا عدو ملحد مشترك ولدينا إله واحد يراقبنا من عليائه".
ورغم أن هذا الاقتراح كان وسيلة رجل الاستخبارات الروسي للوصول إلى القيادي الداعشي في لقاء انتهى بمقتل الاثنين، إلا أن ما يجمع أصحاب الأفكار القيامية ربما يكون أكثر من المتوقع أحياناً، كما قد يبدو من هذا الرسم الذي أرفقه بروخانوف بمقالة يؤيد فيها الحرب البوتينية "المقدسة" على أوكرانيا، وجاءت بعنوان «حقاً قام».