بعد مسيرة عسكرية متعرجة استطاع علي حيدر أن يصل أخيراً إلى المنصب الذي سيبقى فيه نحو ربع قرن، قائداً للوحدات الخاصة منذ العام 1970. في السنة نفسها بادر إلى رد الجميل لعمه، ووالد زوجته، الشيخ أحمد محمد حيدر، فأوعز إلى الإدارة السياسية في الجيش بطباعة «ما بعد القمر»، وهو أول كتاب ينشر للرجل الذي ناهز الثمانين، وأتبعه بديوان له بعنوان «النغم القدسي» صدر بعد عامين عن «الإدارة السياسية» نفسها، قبل أن تتولى لجنة أهلية إعادة نشر الكتابين، وسواهما من تراث الشيخ، في الثمانينيات والتسعينيات.
ولد أحمد محمد حيدر، الشهير بأحمد نسب، عام 1888 لعائلة من سلالة مشايخ في الطائفة العلوية. درس في البيئة المحيطة فتعلم العربية والتركية وقرأ الفلسفة والتصوف والشريعة في الكتب المتاحة فيها، وبعض الكتب الغربية المترجمة. ومن قريته، حلة عارا القريبة من جبلة، بدأ صيته يذيع بالتدريج، وإن ظلت الدفاتر التي يدون عليها أفكاره حبيسة المنزل حتى قرر تلميذه النافذ أن يدفع بها إلى النور.
يثير استخدام علي حيدر نفوذه لنشر كتب دينية في مطابع جيش علماني الكثير من الاستغراب، وهو الذي يدين بصعوده إلى انتمائه إلى حزب يساري هو البعث. غير أن بعضهم لا يرى في ذلك تناقضاً، لا سيما أن كتاب «ما بعد القمر» كان «تنويرياً» بمقاييس زمنه، ولاقى، عند صدوره، «العداوة والبغضاء، وأثار عاصفة من الاستنكار والحيرة والبلبلة» في بيئته، على حد تعبير علي عزيز إبراهيم في كتابه «العلويون بين الغلو والفلسفة والتصوف والتشيع».
لأول مرة، وفق النقري، يكتب شيخ علوي أن لا شيء «يمنع من أن لا يذهب الإنسان إلى القمر فقط ويمشي عليه، بل أن يذهب إلى المريخ ويذهب إلى أعلى وأعلى»
بل إن إبراهيم يضيف أن هذا الكتاب «يمكن أن يعدّ فاصلاً واضحاً بين حقبتين كبيرتين من الزمن، تضرب أولاهما بجذورها إلى عصر الانحطاط بما فيه من جهل وتخلف...، وتطمح الثانية إلى ولوج عصر جديد، مستنير بنور العلم». إذ إن الكتاب وُضع بعد أن حطت مركبة فضائية على القمر، مما أحدث صدمة عنيفة في أوساط شعبية كانت تنظر إلى الشمس والقمر والنجوم على أنها أنوار روحانية وإلهية شفافة لا يمكن الوصول إليها لأنها غير مادية، وهي تجلٍّ للأولياء الذين يسكنون فيها، أو يظهرون عبرها، في انتظار اليوم الآخر. وللقمر بالذات مكانة رمزية كبرى لأنه يلتبس بالإمام علي نفسه. ولذلك كان في نشر علي حيدر كتاب عمه شجاعة كبيرة فاقت جرأته كقائد عسكري، كما يشهد رائق النقري، وهو ضابط سابق في الوحدات الخاصة ثم أستاذ للفلسفة في جامعات فرنسا وأميركا، يرى في ما فعله الشيخ وابن أخيه «استثناء» حين عرّضا نفسيهما لخطر التكفير «من قبل الجهلة». فلأول مرة، وفق النقري، يكتب شيخ علوي أن لا شيء «يمنع من أن لا يذهب الإنسان إلى القمر فقط ويمشي عليه، بل أن يذهب إلى المريخ ويذهب إلى أعلى وأعلى». بحسب ما جاء في كتاب الشيخ أحمد الذي وضع مؤلفات أخرى أقل إشكالية، منها «التكوين والتجلي» و«الحيرات» و«الهبطة» وعدة مخطوطات عرفانية أخرى لم يقدّر لها أن ترى النور حتى وفاته، عام 1975، التي كشفت عن تلميذ آخر ذائع الصيت ليس أقل من أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر).
ففي أربعين الشيخ فاجأ الشاعر الحديث الحضور بإلقاء قصيدة عمودية ترثي أستاذه، جمع فيها بينه وبين والد الشاعر الذي كان صديقه، بقوله: «شمسانِ: شمسُكَ لمْ تغرُبْ، وشمسُ أبي/ هما فضائي، فضاءُ السبقِ والغلبِ// حملتُ سرّكما، سرنا معاً وعلى/ آفاقنا مثلُ نور الآية العجب// قرأتُ: أنتم تباشيري وأخيلتي/ كتبتُ: أنتم حروفي أنتمُ كتبي// كنتُ الوحيد، ولكن كنتُ من شغفٍ/ بكم، ومن فرحٍ، في عسكرٍ لجب».
لكن علاقة الشاعر بالعسكر لم تكن مجرد مجاز كما يبدو. فعند وفاة علي حيدر، قبل عشرة أيام، أشار بعضهم إلى صداقته مع أدونيس، واعتبارهما أخوين في الأخذ عن أب واحد هو الشيخ أحمد حيدر. وكانت فرصة لاستعادة سجال مثير جرى قبل سنوات على فيسبوك.
ففي شباط 2019 كتب اللواء بهجت سليمان، المتقاعد من المخابرات العامة والسفير السوري السابق في الأردن، على صفحته المتابعة بشدة على موقع التواصل الاجتماعي، منتقداً أدونيس بسبب ضعف موقفه «الوطني» بعد «الأزمة». فالشاعر، وفق فهم الضابط، أيد «الثورة السورية التي ذبحت أبناءنا وخربت وطننا»، متحفظاً على خروجها من الجوامع فقط، ودعا «السيد الرئيس» إلى الاستقالة. لكن المفاجأة أتت في تعليق كتبه اللواء البارز علي يونس، المتقاعد هو الآخر من شعبة المخابرات العسكرية، أثنى فيه على كلام زميله وذكر فيه سراً دفع بهجت سليمان إلى ترفيع التعليق إلى رتبة منشور أثار عاصفة من التفاعلات.
يقول علي يونس إن هذه «العادة قديمة» لدى السيد إسبر، ويقصد «عادة» دعوة السادة الرؤساء إلى الاستقالة! ففي بداية التسعينيات عاد أدونيس إلى «التردد إلى القطر». وكانت لقاءاته الأهم، التي يبث من خلالها «أفكاره الهدامة»، تعقد في فيلا اللواء علي حيدر في الديماس، وكان يحضرها العديد من ضباط الجيش. وبعد «استشهاد الفارس الذهبي باسل الأسد» مطلع 1994 بمدة وجيزة ظن أدونيس أن الخسارة أضعفت أباه حافظ، و«جحداً وقلة وفاء منه لمن أكرمه وفتح له أبواب منابر العلم في سوريا» أوعز إلى «مريده الوفي» حيدر الذي قال أمام مجموعة من الضباط: «يجب أن يعلم ذلك الذي يجلس في قصر الروضة أن الرئيس الأميركي، رئيس أكبر دولة في العالم، لا يبقى في الرئاسة إلا أربع سنوات، وفي أحسن الحالات ثماني سنوات. وهذا الذي عندنا صرلو 24 سنة وعليه أن يغادر القصر». يعقب يونس بأن الأسد «كان رحيماً» مع حيدر، فاكتفى بسجنه 45 يوماً وإنهاء خدمته. كما أكد اللواء، الذي كان لسنوات رئيساً للفرع 293 المختص بشؤون الضباط، أن الحادثة «موثقة». وتجنب الرد على ابن علي حيدر الذي انبرى للدفاع عن والده رافضاً أن تكون التقارير الأمنية «مرجعية تاريخية ذات صدقية». في حين تجاهل أدونيس الموضوع...