دفعت فلسطين الثمن بسبب تسييس العلاقة الدينية بينها وبين أوروبا منذ الحملات الصليبية وصولا إلى وعد بلفور وما بعده، كما يقول بشارة خضر (جورج طرابيشي - هرطقات ٢) فكل تسييس للدين يدفع ثمنه الناس ويكون على حساب الدين..
فها هو نابليون بونابرت في مصر وخوفا من هجوم إنكليزي عثماني قادم عبر فلسطين يوجه رسالة لليهود للعودة إلى "أرض داؤود".. نقتطف من رسالة نابليون هذه الفقرة: "ألا بادروا وعجلوا، فها قد واتت الساعة التي قد لا تتكرر في ألوف من السنين القادمة، لتطلبوا بين سائر شعوب الأرض إرجاع حقوقكم التي ضُنّ بها عليكم.. على مدى ألوف السنين، ليكون لكم وجودكم السياسي بين الأمم، وليعود إليكم حقكم الطبيعي واللامحدود في التعبد ليهوه طبقا لإيمانكم وإلى الأبد"، هذا الخطاب المؤثر المثير للمشاعر الدينية اليهودية وجهه نابليون غالبا للحصول على قروض من المتمولين اليهود في فرنسا لدعم حملاته وحروبه في الشرق، لكأن اليهود ينتظرون نابليون ليرسلهم إلى فلسطين فقط من أجل العبادة؟! فهذا دليل على أن أول محاولة لتسييس الدين اليهودي جاءت على يد سياسي غير متدين أصلا، وغير يهودي كذلك الأمر، لتحقيق مصالح شخصية وليس لتحقيق مصالح اليهود، والحقيقة كان المستفيد الوحيد من خطاب نابليون هي وزارة المستعمرات البريطانية التي خشيت أن يستجيب يهود فرنسا وأوروبا لدعوة نابليون الحماسية، فقامت باستغلال الفكرة لاحقا لإقامة حركة سياسية لليهود، بحيث تستفيد من يهود أوروبا من ناحيتين، الأولى بالحصول على المال من أغنياء اليهود لدعم مشروع بريطانيا لتأسيس وطن لهم، والثانية تستخدم فقراء اليهود كموظفين وحرس لها في فلسطين، كما لو أنهم حرس إنكليزي متقدم لمصالح بريطانيا في الشرق الأدنى.. يقوم بهذه المهمة مجانا دون دفع رواتب لهم.. وهنا يبدو الدهاء الإنكليزي متفوقا على دعاء الشيطان نفسه!!
صبت روافد عديدة في خدمة هذا المشروع ومن أهم هذه الروافد حزب العمال الصهيوني "البوند" في الاتحاد السوفييتي، الذي ادعى أن إقامة دولة شيوعية يهودية في أوروبا الشرقية
نعم إن اسرائيل ليست دولة دينية إلا من حيث الشكل، فابتكار الصهيونية التي يمكن اعتبارها الحركة الأبرز لمشروع اليهودية السياسية، كما ولدت فكرته الأولى على يد نابليون، جاء في سياق عمل وزارة المستعمرات البريطانية للمحافظة على وجود استيطاني استعماري لبريطانيا في الشرق الأوسط وأفريقيا أسوة بالوجود الفرنسي الاقتصادي الثقافي في جبل لبنان ومن ثم وجودها العسكري في مصر، وبعد ذلك وجود فرنسا الاستعماري الاستيطاني في الجزائر.
هكذا تحتم الدور الوظيفي على الصهيونية منذ نشأتها الأولى.. ولقد صبت روافد عديدة في خدمة هذا المشروع ومن أهم هذه الروافد حزب العمال الصهيوني "البوند" في الاتحاد السوفييتي، الذي ادعى أن إقامة دولة شيوعية يهودية في أوروبا الشرقية أمر مستحيل لانعدام وجود بروليتارية يهودية هناك، ولذلك فقد دعا قادته للانتقال إلى فلسطين لخلق هذه البروليتاريا اليهودية، "من أجل إحداث الصراع الطبقي" بعد ذلك، وفي سبيل ذلك دخل الحزب- حزب العمال الصهيوني- في صراع مع التوجهات المخالفة له في أوروبا الشرقية ذهب ضحيتها عدد من الشيوعيين اليهود، محاولا عبر ارتكاب عمليات إرهابية في أوساط بهود أوروبا الشرقية دفعهم للهجرة إلى فلسطين، على الرغم من محاولة الاتحاد السوفييتي، وضمن أراضيه إقامة جمهورية يهودية ذات حكم ذاتي، إنما لم يكتب لهذه الدولة اليهودية النجاح.. فلو نجح مشروع الدولة اليهودية الشيوعية في الاتحاد السوفييتي لوفر ذلك الكثير على فلسطين وعموم بلاد الشام ومصر، والعرب جميعا..
والشيء بالشيء يذكر، إذ يقال إن مشروعا شبيها بخلق دولة يهودية في فلسطين وفي الاتحاد السوفييتي السابق أطلق الدعوة إليه نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل السابق، وهذه المرة في أوكرانيا، وسبب ذلك قناعة جزء من الإسرائيليين أن كلفة البقاء في فلسطين ترتفع سنة بعد أخرى، وأن مخاطر وجودية ربما تطول إسرائيل في المستقبل.. وربما كانت أحد أسباب حرب أوكرانيا الجارية تعود إلى هذا المشروع اليهودي الجديد.. كان مقررا أن ينتقل سبعة ملايين يهودي إسرائيلي إلى أوكرانيا بحلول سنة الألفين، كما ذكرت صحيفة روسية، لكن شيئا ما غير معروف عرقل المشروع.
وتبعا لما تقدم فمواجهة الصهيونية أو اليهودية السياسية بانتهاج مشروع إسلام سياسي لم يكن ذا جدوى باعتقاد كثيرين، وهو على كل حال لم يمنع الاستيطان، أو يحدث هجرة معاكسة، مقارنة بما فعلته الانتفاضة الفلسطينية المدنية 1989..
فليس من المتوقع أن يكون الإسلام السياسي هو الحل لمأساة فلسطين، مثلما لم يكن حلاً لمآسي شعوب غربية ابتليت بأنظمة وظيفة شبيهة من عدة نواح بالنظام الإسرائيلي.
ما يمكن أن يواجه الصهيونية التي تمثل أحد أهم حركات المشروع اليهودي السياسي، هو مشروع وطني قومي فلسطيني يتمثل روح الشعب الفلسطيني وثقافته العربية المسلمة والمسيحية معا
فعدا عن شكوك تحوم حول هذا المشروع، مشروع الإسلام السياسي، تطول إنكلترا، التي يبدو أنها كانت تحترف نهج تسيس أديان الشرق الأدنى وتحاول إقامة دول على أسس دينية وعرقية ليس في آسيا فحسب، بل في أفريقيا أيضا، فقد أثبت مشروع الإسلام السياسي أنه أسلوب قاصر عن مواجهة الديكتاتوريات وكذلك قاصر عن مواجهة إسرائيل. فما يمكن أن يواجه الصهيونية التي تمثل أحد أهم حركات المشروع اليهودي السياسي، هو مشروع وطني قومي فلسطيني يتمثل روح الشعب الفلسطيني وثقافته العربية المسلمة والمسيحية معا، وليس مشروع الإسلام السياسي الذي أظهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما لو أنه صراع إيراني مع إسرائيل.
وهو الأمر الذي يدفع كل المعنيين بمواجهة المشروع الصهيوني العودة إلى إعادة الاعتبار للوطنية الفلسطينية وكذلك للوطنيات العربية التي تم تدميرها من قبل الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة الفاشلة، كذلك، تدعونا مواجهة الصهيونية التي راحت تأخذ شكلا قريبا من العولمة وتنجح في إحداث اختراقات علنية في العقل الثقافي والسياسي العربي- كما في مشروع الاختراق السياسي الناعم المسمى "مشروع السلام الإبراهيمي"- إلى إعادة تأسيس وتعريف قومية عربية جديدة، عقلانية، وفي نفس الوقت قومية ليست معادية للأديان ولا للإسلام، قومية متصالحة مع الإنسان والمواطنة، غير معادية للحقوق والحريات الإنسانية الأساسية، ومنها بالطبع حق التعبير عن الرأي والحق بالعمل السياسي والمشاركة في السلطة، وتوزيع الثروة، والأهم من كل ذلك قومية عربية مدنية تعلن بالفم الملآن رفضها لتدخل العسكر بالسياسة أو بإدارة شؤون الدولة..