لم يعد عمل "البصّارات" مقتصراً على كشف الحظ في الأيام المقبلة أو تقديم النصائح للمقبلات على الزواج أو مساعدة الشابّات على الاختيار الصحيح، بل أصبح مهنة منظّمة لها جماعاتها وزبائنها في دمشق.
في حديقة عرنوس وسط العاصمة دمشق أو في حي الشعلان أو في سوق الحمراء، لا بدّ أن تصادف الفتيات المارّات بالمكان صوتاً هادئاً متلوّناً بنبرته: "تعالي يا حلوة شوفي حظك"، "تعالي بلكي تعرفي نصيبك"، "ليش زعلانة؟ تعالي بصّرلك".
وما إن تقترب إحدى الفتيات بدافع الفضول، أو عن قناعة مسبقة بالتنجيم والتنبؤات، حتى تباشرها البصّارة ذات البشرة السمراء بابتسامة، بينما تفرد كفّها كاشفةً عن أحجارها المختلفة بين قشور الثمار المجففة والأصداف البحرية، لتبدأ بعدئذٍ بسرد التنبؤات المكررة والنصائح الثابتة التي تصحّ لمعظم الناس وفق تقلبات الحياة بين عسر ويسر.
يتفاوت الناس في تجاوبهم مع "البصّارة" وطريقة حكمهم على عملها، بين متعاطف مع هيئتها الرثّة وثيابها القروية والبؤس الواضح على ملامحها، ومعارض لجميع أعمال التنجيم والتنبؤ على اعتبار أنه عمل قائم على التطفل على الآخرين والاستخفاف بعقولهم لأخذ أموالهم.
مكان ثابت وأسعار موحدة
توجد مجموعة من البصّارات في حديقة عرنوس، يفترشن العشب عند زاوية من الحديقة مع أولادهن بصورة شبه ثابتة، حتى اعتاد بعض زبائنهن على وجودهن هناك.
موقع تلفزيون سوريا التقى مع فاطمة -واحدة من البصّارات في حديقة عرنوس- وهي امرأة في الـ37 من عمرها مع طفلتها التي لم تتجاوز الخمس سنوات.
تنحدر فاطمة من ريف حلب، تتحدث اللغتين الكردية والعربية دون ثقلٍ في اللسان، أمّا عن وضعها المعيشي فهي تعيش في منزل من دون إكساء -حسب وصفها- بمنطقة الدخانية في ريف دمشق، أمّا زوجها فهو عسكري في قوات النظام، يخدم في منطقة دُمّر.
لـ فاطمة ثلاثة أبناء، اثنان منهما يعيشان في بيت جدّهم بقريتها في ريف حلب، أما الفتاة فترافق أمها أينما ذهبت.
تقول فاطمة خلال حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا: "لا نأخذ الكثير من المال لقاء التبصير، ونترك للزبون دفع المبلغ الذي يريده مقابل فتح الكف، شرط أن لا يقل عن 5 آلاف ليرة سورية".
أما عن غلة اليوم فهي متفاوتة بحسب عدد الزبائن و"كرم" كل واحد منهم –وفق وصفها- إذ تميل النساء -ويشكّلن النسبة الأكبر بين الزبائن- إلى منح البصارة "آلاف أكثر" لكونهن أكثر عطفاً وتجاوباً خلال جلسة التبصير، ولا تقل الغلة اليومية عن 40 ألف ليرة سورية، وقد تصل إلى أكثر من 150 ألفاً في مرات قليلة.
"مهنة تُداري كرامة النساء"
تعاني فاطمة وقريباتها اللاتي يعملن معها في التبصير من سوء الأحوال المعيشية، لا سيّما أنهن غير متعلمات ولا يملكن مهنة أو حرفة يعملن بها، والأهم من ذلك هو عدم وجود معيل بسبب غياب الزوج أو فقدانه، الأمر الذي يجعل من التبصير طريقة لتجاوز "العطالة عن العمل".
تتحدث فاطمة عن زوجها بأنّه لا يتحمّل مسؤولية عائلته، فهو يحتفظ براتبه الذي تمنحه إياه قوات النظام لنفسه من أجل الطعام والدخان، فضلاً عن غرقه في الديون التي زادت عن 16 مليون ليرة سورية، بحسب قولها.
وتضيف: "يُبقي زوجي مرتّبه معه، أما أنا وابنتي فنخرج كل يوم إلى الشوارع حتى نلمّ رزقنا.. لم أضع ابنتي في المدرسة، ويتصدّق علينا بعض المحسنين بالطعام والثياب بين الحين والآخر".
ترى فاطمة في عملها، طريقةً لجني المال دون أن تلجأ إلى التسوّل (الشحادة)، وفق وصفها، فهي تأخذ المال مقابل خدمة "النصيحة" و"التحذير" و"تبييض الفال"، كما أنّه يغنيها عن العمل في أماكن غير محترمة أو في أعمال قاسية على النساء كالتنظيف والخدمة في المنازل، والتي تراها فاطمة، بحسب تعبيرها، "أعمالاً مُذلِّة".
بُشرى خير أم تلاعب بالعواطف؟
تتعمّد البصارة في تعاملها مع الزبون ملاحظة تعابير وجهه مع كل جملة تلقيها أمامه، كأن تخبره بأنّ سفراً أو ارتباطاً ينتظره، فيبتسم هو بطريقة عفوية مبدياً شيئاً من الحماسة لمعرفة المزيد.. ما يدفعها إلى متابعة الحديث عن الأمر نفسه مع إعطاء تفاصيل عامّة تصحّ في جميع الحالات المماثلة.
ولا تتوانى البصّارة في إلقاء أسئلة ذكية، ولا سيما إذا ما حصل أمامها موقف تستطيع استغلاله لصالحها، كأن ترى زوجين أو عاشقين يتشاجران، أو فتاة تحمل كتباً دراسية، أو شابا يظهر عليه الحزن رغم هيئته التي توحي بوضع مادي جيد، عندئذٍ تتدخل لتحلّ خلافاً أو تبشّر بالنجاح القريب أو تعد بانكشاف الغم.
استطاع موقع تلفزيون سوريا إجراء مقابلة مع شابة اسمها روان، كانت قد تركتها البصّارة للتو، بعد أن أنهت جلسة "التبصير"، التي استمرت لأكثر من عشر دقائق..
تقول روان: "كنت في انتظار خطيبي وقد طلب مني انتظاره في الحديقة، وقد جاءتني البصّارة تسألني: "شوفلك حظّك يا حلوة؟"، وعندما تمنّعت في البداية، أخبرتني بأنها لن تأخذ أكثر من ألفي ليرة سورية.. لكن تبيّن أن الموضوع طويل".
توضّح روان أنّ البصّارة بدأت معها بطلب ألفي ليرة فقط لـ"تبييض الفال"، ثم تابعت حديثها حول زواج قريب وسعادة مرتقبة وتحذيرات من الحاسدين ومن الاستمرار بالتعامل الطيب مع مَن لا يستحق، بينما تحمل في يدها أصدافا بحرية بأشكال مختلفة.
ووصفت روان نظرات البصّارة إليها بأنها أقرب إلى التفحّص الدقيق، أي إنها كانت تتفرس في ملامحها ثم تلقي السؤال أو الجملة التالية، مردفةً: "لقد بيضّت الفال بألفي ليرة، ثم بعد أن بدأت الحديث عن الزواج، قالت لي أن ألُفّ صدفة واحدة من الأصداف بمبلغ يساوي عدد سنوات عمري، وحينما أخبرتها بأن عمري 25 سنة؛ أوضحت لي ضرورة لفّ الصدفة بـ25 ألف ليرة سورية!".
وهذه هي طريقة البصّارة لأخذ المزيد من المال من الزبائن بعد "تبييض الفال"، ويعتمد ذلك على قبول الزبون أو امتناعه عن الدفع، وبالتالي إنهاء جلسة التبصير، عندما يشعر بأنّها تستغلّه أو تنصب عليه.
تسوّل مُقنّع أم واقع حال؟
تحاول بعض العاملات في التبصير إثارة شيء من تعاطف الزبائن، إذا ما اتسعت رقعة الحديث وأبدى الزبون تجاوباً معهن.
التقى موقع تلفزيون سوريا مع "أبو عهد"، أحد أصحاب الأكشاك القريبة من ساحة عرنوس، والذي يلاحظ تحركاتهن في المكان بشكل يومي، وقد أوضح كيف تتحوّل بعض البصّارات إلى متسوّلات بالندب والتباكي إذا ما وجدن امرأة مقتدرة مادياً، وهذه شهادة تنافي أقوال فاطمة التي التقيناها وبرّرت عملها بكونه موروثاً عن العائلة وبكونه يحميها من طلب المال دون مقابل "الشحادة".
يقول "أبو عهد": "يبدأ الأمر بالتبصير والكلام الفارغ، ثم لا تتوانى الواحدة منهن بسرد مأساة حياتها لإثارة شفقة المقابل وتحصيل منه مال إضافي، وتتعمد البصّارات فعل ذلك مع النساء الكبيرات بالسن لكونهن أكثر تعاطفاً ولا سيما بوجود أطفال مع البصارة".
"الأمهات بصّارات والأطفال متسوّلون"
استطاع موقع تلفزيون سوريا، تقصّي حقيقة تعليم البصّارات لأطفالهن مهنة التسوّل، وكيف تترك "أم عمر" ابنتها التي لم تتجاوز السبع سنوات في الحديقة وبين أرجل المارة، لتطلب منهم المال.
وبسؤال الطفلة (زينب)، التي ترتدي فستاناً متسخاً عمّا تفعله، أخبرتنا أنّها تجمع المال من الناس في الحديقة بينما تلعب مع أصدقائها من أبناء البصّارات الأخريات، لكن والدتها أنكرت كونها علّمت ابنتها التسوّل أو طلبت منها إحضار المال من الناس.
تحمل زينب في حقيبة زرقاء اللون أوراقاً نقدية أكبرها من فئة الـ500 ليرة سوريّة، أما بقية الأوراق فقد فقدت قيمتها في الوقت الحالي كورقة: 100 - 200 ليرة، وتتباهى بأوراقها أمام صديقاتها لكونها كثيرة العدد وإن كانت بلا قيمة حقيقية.
استجابات متباينة من الناس
يختلف الناس في تجاوبهم مع البصّارات وفي رأيهم بـ"مهنة" التبصير، التي باتت على درجة عالية من التنظيم والانتشار في الآونة الأخيرة.
وتنظر فئة كبيرة من الناس إلى البصّارات على أنّهن يمارسن النصب والاستغلال مع ذوي العواطف المضطربة أو أصحاب المشكلات التي لا حل لها أو الأقل تعلّماً من الناس، ولا سيما أن السوريين يائسون في معظمهم، بسبب تردّي الظروف المعيشية وتأزّم حالاتهم النفسية بعد سنوات الحرب الطويلة؛ الأمر الذي يجعلهم في أمس الحاجة لكلمة طيبة أو توقعات سعيدة على مبدأ "الغريق يتعلّق بِقشَّة".
بينما ينظر عدد كبير من الناس إليهن كنظرتهم لبقية النساء العاملات، اللاتي دُفعن بالفقر والفاقة إلى العمل في أي مهنة للإبقاء على رمق الحياة؛ وإن كان هذا العمل ينطوي على بيع الكلام واختلاق الأكاذيب، يتابع "أبو عهد" حديثه قائلاً: "يبقى كذبهم مقبولاً أمام كذب فئات أخرى من المجتمع.. فالحكومة تكذب والمسؤولون يكذبون والجميع يكذب، وربما كان كذب البصّارات هو الأقل ضرراً في المجتمع!".
اختلاف مسميات
يخلط الناس عادةً بين المسميات التي يطلقونها على أعمال التنبؤ والتوقعات، فقراءة الكف تختلف عن قراءة الفنجان أو التنبؤ المعتمد على مواضع الأجرام السماوية (التنجيم)، إذ لكل منها طريقة موروثة وأسلوب مختلف ووسائل استدراج وإقناع.
أما الشعوذة وإبطال السحر واستحضار الجن والأرواح، فهي أعمال تتمّ في الخفاء بسبب التضييق عليها قانونياً ورفضها دينياً، إلى جانب تخوّف عدد كبير من الناس منها، فهي تجارة خاصة بعض الشيء، لها روّادها وزبائنها في أوكار بعيدة عن الملاحقة والمراقبة.
التبصير بين الدين والقانون
يُجرّم القانون السوري في المادة (754) من قانون العقوبات، ممارسة الأعمال التي يدّعي أصحابها الإلمام بعلم الغيب.
وقد ورد في نص المادة: "يعاقب بالحبس التكديري وبالغرامة كل مَن يتعاطى -بقصد الربح- مناجاة الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب، وكل ما له علاقة بعلم الغيب، وتصادر الألبسة والعدد المستعملة".
أما الدين فينفي كل عمل له علاقة بعلم الغيب جملةً وتفصيلاً على اختلاف المسميات والأساليب، وفي حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا، تخبرنا المربية (هدى. ك) في أحد جوامع حي الميدان، عن رأي الدين في هذه الأعمال، قائلة: "لقد تفرّد الله وحده بعلم المضمر من الأمور ووحده لديه مفاتيح الغيب".
وتابعت: "في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: (مَن أتى عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، لذا فكل أعمال التنجيم وقراءة الغيب مُحرَّمة وتحتمل وجهاً من وجوه الكفر سواء أكان عاملاً فيها أو معمولاً بها".
"تجهيل الشعب.. لعبة النظام"
رغم كون الأعمال المذكورة مُجرَّمة في القانون السوري، إلا أنّ أعمال التبصير التي تنتشر في شوارع دمشق غُضّ النظر عنها من قبل شرطة النظام في كثير من الحالات، فيما عدا تصيُّد بعض أفراد الشرطة للبصّارات وإجبارهن على دفع مبلغ مالي لقاء عدم سجنهن أو مصادرة ما بحوزتهن من وسائل تبصير.
تخبرنا البصّارة (فاطمة) عن موقف تعرّضت له حينما ظنها أحد أفراد الشرطة متسوّلة، لكن بعد أن علم أنها بصّارة، أجبرها على دفع مبلغ 35 ألف ليرة سورية (كل ما كان بحوزتها آنذاك)، حسب قولها، مقابل عدم اقتيادها إلى قسم الشرطة مع ابنتها، على أنّها تمارس "السحر والشعوذة".
وعلى الجانب الآخر، لا تتوانى وسائل إعلام النظام وقنواته وإذاعاته التابعة له والمقرّبة منه، عن استقبال المنجّمين في كل مناسبة، ولا سيما مع بدء عام جديد أو في بداية كل صباح، مثل مايك فغالي على قناة "سما" الفضائية، ونجلاء قباني على إذاعة "شام إف إم".
ويبدو أنّ ذلك يندرج تحت غاية "التجهيل المتعمّد" للشعب وإغراقه في الوهم والآمال الزائفة لجعله يتناسى وضعه المعيشي الذي يزداد سوءاً وتدهوراً، في ظل الاقتصاد المتهالك للنظام والفساد المتجذّر في كل مناحي المجتمع، حيث يقول "أبو عهد": "أغرقونا في حفرة كبيرة.. ثم قرروا تزيين هذه الحفرة لنا بشوية أوهام؛ إنهم يزينون قبورنا".