ثمة توكيد فعلي وحاسم بأن اجتماع اللجنة الخماسية المتابعة لملف لبنان (السعودية والولايات المتحدة وقطر ومصر وفرنسا) والذي جرى على هامش أعمال الأمم المتحدة في نيويورك، أنه لم يكن إيجابياً، لا بل سلبياً، وكان ذلك واضحاً من خلال خفض مستوى تمثيل الدول المشاركة، بعدما كان الكلام عن اجتماع على مستوى وزراء الخارجية، وكذلك في مدة انعقاد الاجتماع، والتي كانت أقل من نصف ساعة، وأخيراً بعدم صدور بيان ختامي يؤكد على موقف الأطراف المعنية والمشاركة في خماسية نيويورك.
في حين المؤشر الأهم هو عن اقتراح بعقد اجتماعٍ ثانٍ بطلب قطري وموافقة فرنسية، بعد أن يكون قد أجرى كل طرف إعادة دراسة جديدة على مستوى المراجع العليا في الدول الخمس. فيما لم يعد سراً حصول تمايز، بين باريس من جهة وواشنطن والدوحة من جهة ثانية، بينما تبدو الرياض أقرب إلى الفريق الثاني، خصوصاً مع إشارة انسحاب ممثلها من الاجتماع بعد ربع ساعة على انعقاده، وهو ما اعتبر بأنه جاء اعتراضاً على الموقف الفرنسي.
وعلل المستشار الحكومي السعودي نزار العلولا انسحابه مبكراً بتجديد الموقف السعودي، أن أي خطوة دعم للبنان لن تحصل إلا بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق معايير بيان الدوحة منتصف تموز المنصرم، والذي على ضوئه سيتقرر ما إذا كانت السعودية ستتولى دعم لبنان أم لا.
من هنا لا يمكن فصل الخطاب الذي ألقاه أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والذي تضمن رسالة حازمة وعلنية للأطراف المحلية والدولية بأنّ الوقت لم يعد مفتوحاً، خصوصاً بسبب خطورة الوضع الذي وصل إليه لبنان، وذلك عندما ضمّن كلمته من على منبر الأمم المتحدة حيزاً للبنان، سعى للتحذير من الخطر الذي يهدد مؤسسات الدولة، وهذا الكلام لأمير قطر مرتبط بمعلومات تتوارد لكل الأطراف الإقليمية المهتمة بالملف اللبناني.
كذلك فإن مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، والتي طلبت خلال اللقاء من المسؤولين الفرنسيين تحديد موعد نهائي وقريب لإنجاز مهمة لودريان في لبنان، سعت للتحذير في الكلام الموزع عنها بأنّ بلادها لن تستمر في مساعدة المؤسسات اللبنانية طالما الفراغ موجود والأزمة مديدة.
وفي كل الأحوال فإن انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذه السنة، أتى مترافقاً مع ما يتعرض له العالم تحت وطأة مشكلات وحروب وأزمات خطيرة، وتعاني معه الدول الكبرى، من آثار هذه الأزمات وهو ما انعكس بدوره على الأزمة اللبنانية، وخاصة أن واشنطن بدأت تعاني من أزمة ثقة على المستوى العالمي ما أدى لمباشرتها بانتهاج سياسة أقل تساهلاً. ذلك أن صعود الصين وروسيا على المستوى الدولي، خلق منافسة كبيرة على زعامة العالم التي استمرت أحادية لصالح الأميركيين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
لبنان وسوريا جزء مهم من المشهد الشرق أوسطي، خصوصاً أنهما يشكلان جزءاً أساسياً من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، حيث حقول الغاز، ومسارات نقل الغاز إلى دول أوروبا والجاري وضع الاستراتيجيات البعيدة حيالها
وهذا الانهيار لأوسع إمبراطورية بعد الحرب العالمية الثانية، أدى لتراكم سياسة عدم الاكتراث الأميركية في كثير من الأحيان، وذلك نتيجة الشعور بفائض القوة والإنجازات، ما أدى ظهور تشققات على المستوى الدولي، استفادت منها الصين وروسيا وكذلك دول أخرى على مستويات أقل مثل إيران وكوريا الشمالية، لكن مع اندلاع الحرب الأوكرانية-الروسية عادت واشنطن للسعي بانتهاج سياسية جديدة أكثر تشدداً، حيث نجحت في أوكرانيا في قيادة تحالف دولي من عشرات الدول الغربية والشرق أوسطية.
وعليه فإن معاودة الحضور الأميركي الحاصلة تحت عنوان مواجهة الصين وروسيا، تشمل من دون شك ساحات الشرق الأوسط، حيث الوجود الروسي في سوريا، مع تحالف عسكري إيراني - روسي وتقارب بين طهران وبكين من خلال اتفاقيات طابعها استراتيجي وعسكري وتكنولوجي.
وعليه فإن لبنان وسوريا جزء مهم من المشهد الشرق أوسطي، خصوصاً أنهما يشكلان جزءاً أساسياً من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، حيث حقول الغاز، ومسارات نقل الغاز إلى دول أوروبا والجاري وضع الاستراتيجيات البعيدة حيالها.
بالمقابل فإن سوريا والتي تعيش تحت وطأة تراجع نفوذ الأسد تدريجياً بعد التحركات الداخلية الحاصلة في الجنوب والشرق، اتجهت إلى الصين من خلال زيارة الأسد الأخيرة لبكين، في ظل حالة التراجع في الاندفاعة العربية تجاهه مع تجميد حاصل لأعمال اللجنة الوزارية العربية والانزعاج السعودي والمصري من عدم تقدم النظام أي خطوة فعلية تجاه الوعود التي جرت، وهذا الأمر يترافق مع اجتماعات أميركية مع الحلفاء للتخفيف من أي اندفاعة نحو النظام.
وثمة معلومات تواردت لواشنطن عن اتصالات فرنسية بالنظام في دمشق، في مساعي ماكرون للعب في كل المساحات، في المقابل، وهذا اللعب في المساحات يترافق مع أزمات سياسية في ظل الولاية الرئاسية الثانية لماكرون، حيث تبدو وكأنها تفقد كل دورها على المستوى الدولي، وهو ما يهدد حضورها واستثماراتها الاقتصادية، وإزاء سلسلة الانقلابات في الدول الإفريقية والتي كانت تتمتع بنفوذ فيها، لذا فإن باريس وجدت نفسها وكأنه يجري عملية إقصاء لها عن الخارطة الدولية ولم يعد لها سوى الساحة اللبنانية كموطئ قدم لنفوذها الخارجي. وهذا ما أدى إلى صدام بينها وبين باقي أطراف اللجنة الخماسية.
ولدى الأطراف أسباب موجبة للتململ من الأداء الفرنسي، حيث تختار باريس حتى اللحظة التمسك بورقة علاقتها مع حزب الله وتبنيها لمرشحه سليمان فرنجية، في ظل ما يحكى عن صراع أجنحة بين فريق ماكرون السياسي والاستخباري، من خلال الصراع بين رئيس الخلية الدبلوماسية في القصر الرئاسي إيمانويل بون والذي عمل لسنوات سفيراً لباريس في بيروت وأحد أهم الأشخاص الذين تربطهم علاقات واسعة بعائلة الأسد وفريقه اللبناني، في مقابل رأي مختلف لرئيس المخابرات برنار إيمييه.
وباعتقاد بون وفريقه في باريس فإن التفاهم مع حزب الله وحلفائه سيضمن نجاح الدور الفرنسي، كونه الفريق اللبناني الأكثر كثافة بالحضور والتأثير، وسيساعد فرنسا في إعادة تعزيز حضورها في إفريقيا نظراً لوجود شيعي لبناني فاعل في العديد من دول إفريقيا. في حين باريس عجزت عن استمالة السعودية إلى جانبها، حيث يتبنى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وجهة نظر الحياد السلبي، بما يؤثر على تراجع نفوذ حزب الله بشكل واسع داخل بنية الدولة اللبنانية، كذلك لم يتجاوب المسيحيون مع ترغيب وتهويل باريس، ووعودها بالمشاريع والصفقات والتوزير.
باريس تدرك أن ثمة استثمارات ضخمة يجري التحضير لها لصالح لبنان عقب انتخاب رئيس لا يستفز دول الخليج. أما العكس فسيؤدي إلى انهيار لبنان أكثر، وهو ما سيعني تحميل فرنسا مسؤولية انفجار الوضع في لبنان في حال الذهاب في هذا الاتجاه
بموازة ذلك لدى السعودية وقطر وجهة نظر تشير إلى أن قرار فرنسا يجب أن يكون سقف بيان اجتماع الدوحة الأخير، ولا يمكن التراجع عنه. وبالوقت نفسه لا بد من طمأنة باريس التي تعرضت لنكسات في كل المنطقة وإفريقيا، وبالتالي فإن الدوحة لا ترغب بالظهور وكأنها جاءت لتتحرك في لبنان على أنقاض انهيار مبادرة لودريان وهو ما سيشكل كارثة تاريخية لفرنسا.
في حين لدى القطريين اقتراحات أن تكون زيارات الموفدين بالتنسيق الكامل مع باريس، وأن يكون ذلك تحت الرعاية السعودية. وفي الوقت نفسه فإن باريس تدرك أن ثمة استثمارات ضخمة يجري التحضير لها لصالح لبنان عقب انتخاب رئيس لا يستفز دول الخليج. أما العكس فسيؤدي إلى انهيار لبنان أكثر، وهو ما سيعني تحميل فرنسا مسؤولية انفجار الوضع في لبنان في حال الذهاب في هذا الاتجاه.
في النهاية فإن لدى واشنطن نظرية تقول إن الظرف اللبناني المحتمل أن يتفجر في أي لحظة على أصوات طبول التطورات في سوريا، لم يحتمل ترف الانتظار وبالتالي عدم تجاوز أي تسوية نهاية العام الحالي بسبب مخاطر الوقوع في الفوضى الشاملة وخطر التفكك على الأرض، والجواب الأهم يأتي من التفاهمات الأميركية مع حزب الله وإنجاز التسوية، والتي ستكون عنوان المرحلة المقبلة خصوصا بعدما توضحت الحدود الإقليمية في الداخل اللبناني. ومن هنا لا يجب التقليل من أهمية زيارة المستشار الرئاسي الأميركي هوكشتاين، والرسائل التي حملها والتطورات حول الملف الحدودي اللبناني.