يستدعي الحديث عن التحولات التي مرت بها الأغنية الوطنية التغيراتِ السياسيةَ وأنظمةَ الحكم المتعاقبة التي مرت بها الدولة السورية، منذ تشكلها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الوقت الحالي، إذ تكاد الأغنية الوطنية أن تكون صورة مباشرة وتاريخا مختصرا لتلك التحولات التي أصابت الحياة السورية.
في منتصف القرن التاسع عشر، انفصلت الثقافة الرسمية العربية عن موروثها الإسلامي، وبدأت تتشكل ملامح شخصية قومية على أنقاض الشخصية الإسلامية التي أخذت تنكمش تدريجيا. نمو الشخصية القومية، عند العرب والأتراك والكرد وغيرهم من سكان الإمبراطورية العثمانية، كان خاصا بالنخبة المثقفة، فالفكرة القومية كانت نتاج رأس المال الطباعي الذي كونته الجرائد والصحف التي خلقت طبقة إنتلجنسيا جديدة تعي نفسها عبر تميزها اللغوي لا عبر إيمانها ودينها كما هو حال عامة الشعب آنذاك. بمعنى من المعاني كانت القومية العربية نتيجة حتمية لدخول ثقافة الطباعة، مثلها في ذلك مثل نسختها الأصلية في أوروبا.
في هذا السياق الفكري المشار إليه أعلاه، بقيت الأغنية السورية بعيدة من الدخول في خضم الجدل السياسي، فالفئات التي كانت تحتضن الغناء هي فئات تقليدية ظلت معزولة عن الصراع السياسي، وحافظت على صلتها وارتباطها بالموروث الإسلامي، وهو ما يفسر صدور الأشكال الأولى للوعي القومي العربي على أيدي حملة الثقافة الجديدة التي تبلورت على صفحات الجرائد والمجلات، وكان الشعر بنزوعه القومي المستجد أهم تعبيراتها الثقافية.
استمر هذا الانقسام بين أغنية مهمومة بعالم الطرب وموضوعات العشق التقليدية، والشعر الذي كانت نبرته القومية تقترب به من عالم الخطابة على نحو كبير، إلى ما بعد انتهاء الحكم العثماني، ودخول الاستعمار الفرنسي. ظهرت في هذه المرحلة قصائد تمجد سوريا، كان من بينها نشيد: "سوريا يا ذات المجد والعزة في ماضي العهد" الذي كتبه مختار التنير ولحنه الأخوان فليفل.
هكذا كان الشعر لا الأغنية هو صدى الأحداث السياسية، فبدلا من الدولة العربية الواحدة، اختار الشاعر الحديث عن سوريا وحدها دون بقية أقطار المشرق العربي وبلدانه، وسوريا آنذاك كانت تضم كل بلاد الشام التاريخية. وإذا وضعنا جانبا أغنية "زينوا المرجة"، فإن دخول الأغنية إلى ساحة الصراع السياسي تأخر إلى ما بعد خروج الاستعمار الفرنسي، ولاسيما في مرحلة المد القومي العربي في الخمسينيات.
"من قاسيون أطل يا وطني" جرى تغيير بعض كلماتها لكي تضم كلمة البعث، فبعد أن كانت: "من قاسيون أطل يا وطني.. فأرى دمشق تعانق السحبا/ نيسان يدرج في مرابعها... والمجد ينثر فوقها الشهبا"، أصبحت "والبعث ينشر فوقها الشهبا".
يمكن الزعم أن الأغنية الوطنية السورية لم تكن أغنية وطنية بالمعنى المعروف لكلمة وطن، فقد كانت دائما أوسع من الحدود السياسية السورية الضيقة، وهي بذلك تتصادى مع تطلعات السوريين نحو فضاء سياسي يمتد من المحيط إلى الخليج. كذلك لم تكن الأغاني الوطنية السورية الأولى نتاج مطربين ومغنين سوريين، بل كانت في بداياتها مستوردة من خارج الحدود الجغرافية لبلاد الشام كلها، إذ كانت قادمة من مصر الخمسينيات التي كانت الحركة الغنائية فيها أكثر حضورا في الحياة العامة، وأشد تشابكا مع الجدل السياسي، على خلاف الحالة السورية التي حافظت الأغنية فيها كما أسلفنا على موضوعاتها الموروثة.
لم يُحدِث وصول حزب البعث إلى السلطة تحولا جذريا في مجرى الأغنية الوطنية العام، وإن أعطاها طابعا حزبيا، فأغنية مثل: "من قاسيون أطل يا وطني" جرى تغيير بعض كلماتها لكي تضم كلمة البعث، فبعد أن كانت: "من قاسيون أطل يا وطني.. فأرى دمشق تعانق السحبا/ نيسان يدرج في مرابعها.. والمجد ينثر فوقها الشهبا"، أصبحت "والبعث ينشر فوقها الشهبا".
"من قاسيون أطل يا وطني" حين غنّتها دلال شمالي أثناء إقامتها في العراق فوضعت كلمة بغداد بدل دمشق، وتموز بدل نيسان
التحول الأكبر الذي أصاب الأغنية الوطنية، وحولها من الكلام على الوطن والتغني به إلى التغني بالزعيم القائد الأوحد، جاء مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وترافق مع تبني عقيدة عبادة الفرد التي جعلها وزير الإعلام، أحمد إسكندر أحمد، سياسة رسمية. وقد جاء هذا الانعطاف في أثناء الصراع مع الإخوان المسلمين وما أدى إليه من إغلاق المجال السياسي كليا، والتوجه نحو تأليه الأسد الأب.
وبسبب هذا التوجه، أزاحت الأغاني التي تمجد الأسد الأب بقية الأغاني الوطنية، وأصبحت هي التعبير الفني عن المرحلة السياسية بكل تجلياتها، ولاسيما ما يتعلق منها بانهزام قيم المواطنة والوطن في مقابل حضور الديكتاتورية. أما من الناحية الفنية، فتختلف تلك الأغاني في مستواها، ولعل أفضلها على الإطلاق أغنية "جبهة المجد" التي ارتفع صفوان بهلوان بلحنها إلى مستوى سيمفوني ملحمي.
جاء التحول التالي في إطار انشغال النظام بمسألة التوريث في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، إذ ظهرت بعض التغيرات لكي تناسب طبيعة المرحلة، فعلى خلاف ما كان سائدا من قبل، حين كان يطلق على حافظ الأسد: "أبو سليمان" نسبة إلى أبيه، تحولت الأغنية لتستجيب لهواجس النظام ورغبته في الانتقال إلى نظام وراثي، فانتشرت في تلك الفترة أغنية "أبو باسل قائدنا" لعلي حليحل اللبناني.
هكذا انهزم الوطن كليا في الأغنية الوطنية، ولم تعد مسألة العروبة التي كانت القيمة المركزية الأولى، في أغاني الستينيات وبداية السبعينيات، حاضرة في الأغاني بعد أن غيبتها التطورات السياسية، وحل بدلا منها "الديكتاتور- الإله" الذي أصبح هو العنوان الأبرز دون منازع. وإذا ما حدث ذكر عرضي للوطن، فإن الإشارة إلى الوطن العربي تغيب نهائيا، لتحضر بدلا منها سوريا كما في الأغنية الشهيرة: "أنا سوري آه يا نيالي"، والتي كانت من بين الأغاني الأكثر حضورا في نهاية التسعينيات وبداية الألفية.
في العشرية الأولى من حكمه، لم يكن الأسد الابن فيما يبدو مهموما بإنتاج أغان تمجده، فقد اتجهت السلطة نحو أساليب دعائية، تتناسب وطبيعة التغيرات العميقة التي أصابت النظام والحياة العامة التي لم تعد فيها الأغنية وسيلة دعائية مميزة كما كانت في السابق، وقد عبرت عن تلك التغيرات الكلمة الشهيرة: "منحبك" التي كثفت بطريقة نطقها، وبالجهة التي أطلقتها "شركة سيرياتل"، جملة الأسس التي يستند إليها النظام، كالطائفية والنهب الاقتصادي.
لكن الأسدية عادت مجددا إلى الأغنية، ولكن عودتها هذه المرة كانت رد فعل على السوريين الذين استعادوا أصواتهم عبر الأغاني التي صدحت بها الساحات دفاعا عن حقهم في الحرية والكرامة، فقد خشيت السلطة أن تخسر المعركة الفنية، فرجعت إلى استعمال أساليبها القديمة، وأصبحت الأغنية جزءا من آلتها الحربية. وعلى عكس أغاني النظام في المراحل السابقة التي شاع فيها الخطاب الأبوي الذي كان المتلقي يلاحظه في أغاني الثمانينيات، فإن الأغنية الأسدية في مرحلة الثورة تدعو على نحو مباشر إلى القصف والتدمير والقتل، وفيها احتفال بالموت والتهجير والإبادة.
من سوريا ذات المجد في العشرينيات، وصيحات العروبة في الخمسينيات، إلى "يا بشار متلك مين" في السنوات العشر الماضية. هذا ملخص مكثف للبدايات العظيمة، والنهايات الفجائعية المؤلمة. هذا هو مع كل أسف تاريخ سوريا الذي يصاب بالذهول والخيبة كل من يتبع مساره التراجعي.