يخوض حزب الله منذ اندلاع معركة "طوفان الأقصى" معارك متعددة، ولعل أبرزها على المستوى المعنوي، محاولة تبرير الخذلان السياسي والأخلاقي لنظام الأسد والهروب الواضح من الانخراط في أي فعل يؤدي إلى استخدام جبهة الجولان في إطار المعركة المفتوحة منذ تسعة أشهر.
وثمة شعور داخلي يتردد في الأروقة الداخلية لحزب الله وقوى محور الممانعة، وهو إحباطهم الكبير من موقف الأسد الذي يبرر في العلن أنه نتيجة الواقع السياسي والحصار الكبير الذي يعيشه بعد الثورة السورية وقانون قيصر والواقع الاقتصادي المتأرجح بين الجوع والانكماش.
وهذا الموقف نوقش في جلسات معمقة، ولعل آخرها في النسخة الثالثة للحوار الإيراني – العربي التي عقدت في طهران بين شخصيات دبلوماسية وأكاديمية عربية وإيرانية، وكان لافتاً مشاركة قيادة حزب الله التي وجدت حرجاً في الإجابة عن أسئلة هروب الأسد من المواجهة طالما أن الواقع السوري معقد ومفتوح على الأزمات.
هناك شعور في عمق النقاش الدائر أن الموقف السوري المرتبط بحسابات الأسد ودائرته ومصالحها المالية وعلاقاتها العربية الحديثة هو المسبب الرئيسي لكل الانسحاب الأسدي من لعبة الحرب والبقاء ضمن لعبة المزايدات الرخيصة وغير المكلفة. ولكن في خطاب الأسد في القمة الاستثنائية العربية – الإسلامية في السعودية، لمس استهانة واضحة بمعركة غزة ووضعها في سياق فلسفي أكبر يتوارثه الأسد عن أبيه.
لكن الحقيقة التي يعمد أعمدة المحور إلى مجافاتها هي أن للأسد شعورا بالثأر تجاه حركة حماس، وهذا الشعور الذي يغذي كبد الرجل مرده الرئيسي موقف الحركة إبان الثورة السورية وخروجها من دمشق رافضة إعارته مواقفها لمجازر القتل والاغتصاب وتهديم المنازل والبراميل المتفجرة.
أفضل ما يبرع به الرجل منذ وصوله للسلطة هو تفننه في التجارة، ليس فقط احتضان تجارة المخدرات وتجارة العنف وتجارة عصابات الاتجار بالبشر، بل تجارة المواقف.
ورغم أن حماس عادت "مخفورة" إلى دمشق بمواقف مخجلة لا تشبه تضحيات كتائب القسام وأهالي غزة بعد معركة سيف القدس، ولا ترتقي لمواقفها الشجاعة الداعمة لخيارات السوريين، إلا أن هذا الموقف لم يلقَ لدى الأسد أذناً صاغية للعفو والصفح وقبول التوبة، بدليل مقابلة رأس النظام على قناة سكاي نيوز الإماراتية قبل أشهر قليلة من المعركة الفاصلة في 7 أكتوبر، ليبيع موقفاً رخيصاً لأبو ظبي التي فتحت ذراعيها للرجل ولرجال أعماله في تبييض الأموال وتبييض الصورة.
لكن هذه المفاضلة لا تنطوي على شعور "الغدر" المحتمل الذي يعتبر الأسد أن حماس أذاقته له وفق وصفه، بل للأخير غايات بيع المواقف مقابل شرعنة الوجود وتثبيت الحضور، بدليل رسائل الفجيعة في الحب التي يوجهها الرجل لواشنطن التي جمدت كل تفاوضها معه في مسقط بعد شعورها بفقدان الرجل لأي جواب حول المختفين قسرياً وعدم تقديم أي حجة على رفض التقدم في المصالحات الداخلية وفق مندرجات القرار 2254 وغيره.
لا يستقيم للأسد أن ينخرط في معركة فاصلة قادها "فصيل إخواني" وفق وصفه لمسؤول أمني من أوروبا الشرقية، ولا يكل الرجل ولا يمل من ذكر مآثره ومحاسن والده في إنهاء حالة الإسلاموية السنية في المنطقة منذ مطلع حكم البعث واغتصابه للسلطة، وهذا الموقف بدا أنه ما يزال يلقى رواجاً لدى آذان أنظمة المنطقة بدليل "خطاب الأحضان" الشهير في قمة جدة ربيع العام الماضي، والتي كللت بفتح قنصليات وسفارات وزيارات ووعود بفك الحصار.
هنا يمكن القول أن أفضل ما يبرع به الرجل منذ وصوله للسلطة هو تفننه في التجارة، ليس فقط احتضان تجارة المخدرات وتجارة العنف وتجارة عصابات الاتجار بالبشر، بل تجارة المواقف، وهو اليوم رغم كل خصاله المقيتة، بات قادراً على النوم صباحاً على حضن طهران وأن يغفى مساءً بين ذراعي إسرائيل ووسطائها الأوروبيين من تشيك إلى رومانيا وليس انتهاءً بإيطاليا وقبرص.
وباتت المفارقات الفجة أن يصبح مسؤولو مخابرات النظام وسطاء بين حزب الله وإسرائيل بتكليف دول إقليمية، وهنا تنقلب الآية ويصبح الحليم حيران، فبدلاً من أن يدفع المحور حليفه للدخول بجيشه الماهر في قصف الأحياء والمدن وتسويتها أرضاً في معركة التاريخ لغسل عار العقد الأخير، بات النظام وسيطاً رخيصاً لإسرائيل لتخفيف حدة المعارك في جنوبي لبنان ومنع قصف الجولان من مزارع شبعا.
إنه تاريخ المخابرات العربية البارعة في المقايضات على حساب السيادة الوطنية، من بيان هزيمة المعركة رقم 66 لحافظ الأسد وما سبقه من مفاوضات برعاية دولية، وليس انتهاءً بهروب بشار الأسد وتبرئه من معركة "طوفان الأقصى" رغبة منه في تحصيل المكتسبات الكبرى بعد الحرب.
ولعل الرجل تناسى مصير من سبقوه إلى القبر نتيجة اللعب بين النقاط، وليس علي عبد الله صالح ببعيد عنا وهو يرقد في قبر حفرته إيران بسلاح الحوثيين.