لم يكن من المخطط له إطلاقاً أن يكون رئيساً لسوريا، لكنها تصاريف القدر. بلغ بشار الأسد هذا الموقع بعد مصادفتين مهدتا له الطريق. الأولى أن حافظ الأسد استطاع عام 1984 التخلص من شقيقه الطامح لوراثته رفعت، وأخرجه من البلد، فالعقل البطريركي الإقطاعي لا يميل لتوريث الأخ بل الابن. أما المصادفة الثانية فهي موت باسل الأخ الأكبر في حادث سيارة بعد سنوات من التعب لتهيئته لخلافة أبيه. إذاً انتهى المطاف بالسوريين بمن احتل المرتبة الثالثة في قائمة الورثة. فتم على عجل محاولة إعداده وتهيئته لهذا الموقع، الذي بدا على الدوام أنه لن يملأه بالطرق التقليدية للرؤساء الذين يعملون بدأب على إقناع شعوبهم بجدارتهم. هل كان من سوء حظ السوريين أنه لم يؤهل بالشكل الكافي؟ لا أعتقد. فاللعنة تكمن في مكان آخر.
بدا الرئيس الشاب منذ خطاب القسم بتناقضاته عام 2000 أنه لا يمتلك حتى الأفكار المترابطة، فكل هدف طرحه كان يتضمن ما يقوّضه أو يسوّفه على الأقل، لكن الانكشاف الأهم والمربك كان قبل إتمام عامه الأول، حين وضع نفسه في موقف استثنائي، سوف يدلل على نبوغه السياسي المبكّر. في سابقة تاريخية لم تحدث قبلاً، ولم تتكرر تالياً، زار البابا يوحنا بولس الثاني سوريا في مطلع أيار 2001. في كلمته الترحيبية بالبابا في مطار دمشق الدولي راح الأسد، بعبقربة فريدة، وبدلاً من شرح الظلم الذي أوقعه الصهاينة على الفلسطينيين، راح يعقد المقارنات بين خيانة اليهود للمسيح وغدرهم برسول المسلمين وبين ما يفعله الإسرائيليون، ورثة أولئك اليهود، مع الفلسطينيين اليوم. كان في خطابه ما يشبه دعوة ساذجة لتحالف إسلامي مسيحي بمواجهة اليهود. وزيادة في الطرافة يومها، كانت المترجمة بثينة شعبان تنقل كلامه إلى اللغة الإنكليزية، ليس بطريقة المترجمين، ولكن بنبرة خطابية بدت خلالها متحمسةً، وكأنها صاحبة الخطاب، بينما بدا الأسد وكأنه يقوم بترجمة كلماتها، بنبرة المترجمين المرتبكة، إلى اللغة العربية.
الأسد لا يفهم مصطلح معاداة السامية ودلالاته، أو كان يعرف ويتذاكى ويتلاعب بالكلمات، فقد بدا في وداع البابا أكثر ركاكة منه أثناء استقباله
قامت الدنيا ولم تقعد في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية متهمةً الرئيس الغرّ بمعاداة السامية. وفي كل كلمة ألقاها البابا في لقاءاته في سوريا كان يؤكد على ضرورة المحبة والحوار بين أتباع الديانات السماوية، فيما بدا رداً وعدم تبني لدعوة الأسد. سيحاول الأسد، بذكائه المعروف، إصلاح الموقف خلال وداع البابا في المطار، قائلاً "إنهم يتهموننا ونحن الساميّون بمعاداة السامية". إن كان الأسد لا يفهم مصطلح معاداة السامية ودلالاته، أو كان يعرف ويتذاكى ويتلاعب بالكلمات، فقد بدا في وداع البابا أكثر ركاكة منه أثناء استقباله.
أحد الخبراء الإسرائيليين بالشأن السوري سوف يعلّق بأن تصريحات الأسد كان خلطة بين أفكاره وقلّة خبرته، متهماً إياه بأنه يقاتل للبقاء في السلطة، عبر اختياره خطاباً شديد العدوانية، بعد أن اختار عدم الرد على غارة إسرائيلية دمّرت محطة رادار سورية في لبنان قبل شهر. معتبراً أن هذا يظهر الضغط الواقع عليه، ولذا يحاول البحث عن شعبية عبر الردود الكلامية. الفكرة الأخيرة عن ردود الأسد الكلامية على الاعتداءات الإسرائيلية، ما زالت صالحة بعد عشرين عاماً.
للمصادفة كان في برنامج الأسد ذاك الصيف زيارات إلى دول أوروبية منها إسبانيا وفرنسا وألمانيا. في فرنسا استمع الأسد من رئيس بلدية باريس، أثناء زيارته إلى مقر البلدية، إلى توبيخٍ علني بسبب تصريحاته قبل شهر "أدين بقوة وعلناً، كل ما يسيء للكرامة الإنسانية، مهما كان شكل الإساءة ومصدرها، سواء العنصرية أو معاداة السامية" قال الرجل للأسد في وجهه. وعندما قام الأسد لإلقاء كلمته رفع عدد من أعضاء مجلس بلدية باريس في المقاعد الأمامية لافتات معادية لتصريحات الأسد. الرئيس الشاب لم يرد، لكنّ عدداً من السوريين، وسط دهشة الفرنسيين، هتفوا "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وهو فولكلور لم يفهم الفرنسيون الحاضرون سياقه.
بعد أربع سنوات، سيجتمع الأسد مع رؤساء آخرين في مراسم دفن البابا يوحنا، وستتم إبان ذلك المصافحة الشهيرة بين الرئيس الإسرائيلي كاتساف والأسد. يومها سيقول كاتساف لوسائل إعلام إسرائيلية، إنه إضافة لمصافحة الأسد، فقد صافح الرئيس الإيراني خاتمي، وتبادل معه بعض الكلمات باللغة الفارسية. ليس مؤكداً إن كان الأسد بتلك المصافحة يومها، يعتذر عن مهاجمة اليهود بصفتهم الدينية. لكن السنوات القادمة وخصوصاً سنوات ما بعد 2011 ستبين بما لا يقبل الشك أن الأسد لم يكن يوماً عدواً لإسرائيل، ومثله كان أبوه من قبل.
بشار الأسد اليوم يمارس الكذب العاري، ولا يحتاج سوى إنكار كل مجازره الموثقة، حتى يجعل العالم يكتفي بإدانات لفظية
تلك الحملة التي نالت الأسد قبل عشرين عاماً بسبب نباهته المبكرة، لم تعكس نفسها في السياسة، وهذا مفهوم إلى حدٍّ ما، في العلاقات بين الدول، خصوصاً وأن الأسد كان ومازال حاجة لتلك الدول وأولها إسرائيل. لا يحتاج بشار الأسد اليوم أن يفعل كما فعل عام 2001 حين ادّعى أن كلامه قد فُهم على نحو خاطئ. بشار الأسد اليوم يمارس الكذب العاري، ولا يحتاج سوى إنكار كل مجازره الموثقة، حتى يجعل العالم يكتفي بإدانات لفظية. كان حلماً راود السوريون مع بداية ثورتهم، أن يتحرك العالم لنصرتهم، لكن حلمهم مات في مهده. ومن مازال منهم ينتظر لليوم من حكومات العالم موقفاً حقيقياً وجذرياً من الأسد، بعد كل مجازره التي مارسها خلال عشر سنوات، فإنه ينضم إلى قائمة الواهمين، ممن ينتظرون "غودو" الذي لم يأتِ يوماً، ولن يأتي.