«إنه لا يدافع عن العدالة وإنما يهاجم بها، فقد أصبحت سلاحاً له وليست غاية»
من رواية «الدرويش والموت»، ميشا سليموفيتش
بدا المشهد مشجعاً وسهل الفهم حين أعلنت السلطات الألمانية عن توقيف ضابط أمن سوري سابق برتبة رفيعة، وأحد مرؤوسيه، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان في قسم التحقيق التابع للفرع الداخلي في جهاز المخابرات العامة الشهير بأمن الدولة.
ساعات قليلة فقط فصلت بين الفرحة التي عمت أجواء الضحايا وذويهم، والنشوة التي ملأت صدور حقوقيين بذلوا مساعي كبيرة لسنوات؛ وبين تعكير صفاء ذلك كله ببعض المعطيات التي أخذت تتسرب تدريجياً. فقد استطاع الناشطون السوريون التوصل إلى معرفة الاسمين اللذين تحفظ الادعاء الاتحادي الألماني على ذكرهما بوضوح. كانا العقيد أنور رسلان والمساعد إياد الغريب.
بدأ التشويش يدخل على صورة «المجرم» عندما عُرف أن الأمنيَّين انشقا في عام 2012
بدأ التشويش يدخل على صورة «المجرم» عندما عُرف أن الأمنيَّين انشقا في عام 2012. وبقدر ما كان يبدو الأمر في تلك السنة متأخراً جداً عن المطلوب؛ صار يبدو الآن مبكراً وكأن فاعله من الثوار الأوائل!
زادت شوائب المشهد عندما انتشر أن رسلان شارك في بعثة المعارضة إلى اجتماع جنيف 2، موفداً من قيادة أركان الجيش الحر كمستشار أمني للوفد المفاوض. وتعزز الالتباس حين ظهرت شهادات بعض من عرفوه، وفيهم من حقق معهم أثناء اعتقالهم، لتثني على تعامله معهم وقتها باحترام وتفهم غير مألوفين من ضابط مخابرات سوري.
وفي حين كانت قصة العقيد تتفاعل كانت حكاية المساعد تمشي باتجاه مواز مع تباين في بعض التفاصيل. فبخلاف الضابط بدا إياد الغريب صيداً يمكن للجمهور التساهل معه كصف ضابط، خاصة وأنه انشق في مطلع 2012 بينما انشق العقيد في آخره. كانت تلك سنة مليئة بالدماء وكان ذلك عاملاً جديراً بالاعتبار بالفعل. كما أن موقف إياد دُعِمَ بعدد أصرح من الشهود الذين تحدثوا عن تفاعله مع الثورة ومساعدته المتظاهرين ورغبته المبكرة في الانشقاق. كان هؤلاء من طلائع الثوار في دير الزور التي ينتمي الغريب إلى عائلة ثائرة، هي الأخرى، من مدينة موحسن المجاورة لها، وقدموا دفاعاتهم عنه بحماس لعبت فيه القرابة والتكاتف المحلي دوراً لم يُتَح لرسلان الذي لم تصل للتظاهر أمام محكمة الفيسبوك المنصوبة له مؤازرات من تلدو، مدينته الثائرة بالحولة قرب حمص. كانت عصبة العقيد في مكان آخر في الحقيقة. وعدا بعض أترابه من الضباط لم تشأ إعلان موقف واضح بحكم تكوينها من سياسيين متوسطين ومن موظفين أقل شأناً في المعارضة، عرفوا العقيد وتواصلوا معه عبر سنوات، وكانوا مستعدين أن يمدحوه و«يحلفوا برأسه» على الخاص، دون أن يتورطوا في ما وقع فيه أحد المدافعين عن إياد، حين استنكر أن يُعدَّ «ذنباً» أن «شغل» قريبه كان في «مكتب الدراسات» في «مكان دوامه» الخاص بالدولة لا بنظام الأسد!!!
على كل حال، خفت الحديث عن المساعد، وعن ثالث قيل إن السلطات الفرنسية اعتقلته لصالح القضية ذاتها، وانحصر في العقيد. ومقابل روايات من زعموا أنه عاملهم بشكل لطيف ظهرت شهادات من ادعوا أنه أشرف شخصياً على تعذيبهم. منهم أطراف في الدعوى ضده أصلاً، شعروا بالخذلان من بعض رفاقهم في الثورة إذ يتجاهلون الضحية ويدافعون عن «الجلاد»، ومنهم شهود جدد حرضت الدعوى ذكرياتهم، وكانوا قد اعتقلوا في المبنى الذي تولى رئاسته في منطقة الخطيب بشارع بغداد بدمشق، منذ ما قبل الثورة وحتى أيلول 2012.
ولد أنور عباس رسلان عام 1963، كأكبر أولاد أسرة فلاحة، حيث يمكن أن يقود أحد أبواب الطموح تلقائياً إلى دراسة الحقوق ثم التطوع في الشرطة. يقول بعض من عرفوه في الكلية الثانية إنه كان مجدّاً وحاز موقع «ميجور الدورة»، وهو ما لا يتاح لطالب سنّي إلا بإثبات جدارة لا يمكن تهميشها. تخرّج رسلان وتزوج وعمل كضابط شرطة، حتى نقل إلى جهاز المخابرات العامة وهو برتبة نقيب، دون سعي منه ولا علم مسبق. وترافق ذلك مع العقد الأول من حكم بشار الأسد، عندما كان من المطلوب تخفيف القبضة الأمنية على البلاد إلى درجة ما، وتطعيم أجهزتها بضباط «نظيفين»، دون أن يعني ذلك انتفاء التعذيب والاعتقال على الشبهات.
بعد الثورة يقول مطلعون من داخل الفرع إن العقيد كان محل شبهة بوصفه متعاطفاً مع المتظاهرين، ولهذا السبب «اضطر» أحياناً إلى انتهاج السلوك الأمني المألوف كي لا يبدو ناشزاً. يقول أحد المعتقلين السابقين الذين اجتذبتهم القضية بعد الإعلان عنها: «سأقدم شهادتي ضده أيضاً. هذا السافل عذبني لساعات وهو يعرض عليّ فيديو المظاهرة لكي أتعرف على المتظاهرين». حملنا هذه العبارات إلى أحد أصدقاء العقيد، نموذجاً عن «الاضطرار»، فأشعل سيجارة وأخذ يفكر!
* * *
بخلاف كثير من السجالات العابرة على فيسبوك الشأن العام السوري، يمكن النظر إلى الحوار الذي أثارته هذه الدعوى على أنه تجريب حار على النقاش حول قضية رأي عام قسمت الشارع المعارض إلى فريقين؛ مؤيدٍ للاعتقال متحمس له بوصفه خطوة باتجاه العدالة، ومشككٍ فيه معترض على ما جرى لجهة التفاصيل.
في مقدمة الفريق الأول يأتي محامون من العاملين في منظمات حقوق الإنسان، وقد صاروا يتحدثون الآن بمنطق النواب العامين، بعدما أحسوا أن هناك معنى لما يفعلونه بعد طول شعور بالعجز أمام دوامة الفوضى السورية التي باتوا اليوم يواجهونها بشعارات صلبة وصحيحة، لكن مجردة إلا عن المبادئ الأساسية: لا للإفلات من العقاب؛ لن يجد الجناة مكاناً آمناً في أي من دول العالم؛ الثورة لا تجبّ ما قبلها؛ الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم؛ ليس من حق أحد منح صكوك الغفران؛ نحن رجال قانون لا سياسة... ووراء هؤلاء حشود من السوريين المحبطين الذين انتظروا طويلاً أن «تبرد قلوبهم» برؤية العدالة تتحقق ولو لمرة!
لا يجادل الفريق الثاني في المبادئ لكنه يعارض تطبيقها هذا: من بين كل منتهكي حقوق الإنسان في سوريا لم تقع فأس المحاسبة إلا في رأس رجلين انحازا إلى الثورة باكراً وبذلا لها ما يستطيعان!! لماذا لم تطل رفعت الأسد أو عبد الحليم خدام أو شبيحة الأسد الذين «يسرحون ويمرحون» في أوروبا؟ ما هي الرسالة من وراء دعوى كهذه؟ أكان على العقيد والمساعد ألا ينشقا، وحينها لن تصل إليهما يد المساءلة ما داما في عرين الإفلات من العقاب بدمشق؟ من المستفيد منها سوى النظام الذي سيشمت بمن تركوه وسيشد عصب ضباطه وعناصره؟ بل ربما كان وراءها عبر «أذرعه الخفية»، للانتقام من المنشقين بتحريك إحدى «دكاكين» حقوق الإنسان الباحثة عن الشهرة والمال ولو على حساب «ثائر مخلص كإياد فك الله أسره، وضابط قل نظيره في النبل والمعرفة والذاكرة الحديدية كأبو وسيم».
كم بقي من عملاء المخابرات السورية في مؤسسات المعارضة؟
سوى هذين الفريقين أتيحت الفرصة لباعة الحلوى الملونة المكشوفة التي يحذّر منها الأطباء أن يتجولوا في المهرجان عارضين بضائعهم: «فضيحة من الوزن الثقيل للائتلاف؛ من المسؤول عن تعيين العقيد في الوفد المفاوض؟ هو علي مملوك بالتأكيد! هل أوعز النظام لهما بالانشقاق ودسهما في صفوف الثوار؟ كم بقي من عملاء المخابرات السورية في مؤسسات المعارضة؟». بينما نسبت اعترافات مضحكة مزعومة لرسلان قوله إن مهمة المجموعة هي: «القدوم بصفة لاجئين لمتابعة ومراقبة السوريين وجمع المعلومات وتقديمها لمجموعات أخرى تتبع للنظام في أوروبا، مهمتها تصفية الناشطين بطرق مختلفة منها القتل بالغابات أو كالذين وجدوهم مقتولين بشققهم أو عبر حادث سير أو حادث سرقة»!
* * *
على كل حال، ما يبقى من القضية في المجال العام السوري المعارض هو حوار جاد يجب أن يُفتح عن العدالة، تبدو الأسئلة فيه أكثر بكثير من الأجوبة.
منها السؤال عن «المنشق المثالي». وهو، نظرياً، من استطاع النأي بنفسه عن ممارسة الانتهاكات منذ أن تبين له سلوك النظام الإجرامي تجاه المحتجين، أي منذ نيسان أو أيار 2011 على أبعد تقدير. وحينها عليه أن يؤمّن أمر ترك عمله وتواريه، دون انتظار وجود مناطق محررة أو أحياء آمنة على الأقل، ودون أي اعتبارات شخصية أو أسرية، ودون النظر إلى تفاوت الناس في الاستجابة لنداء القيم، وفي الإقدام، وربما المغامرة.
ومنها السؤال عن معنى العدالة المطلقة، المسطرية والمخبرية لكن العمياء، مع وجود أعداد هائلة من السوريين المتورطين فعلاً بسفك الدماء في طرف النظام، إن لم نتحدث عن الأطراف الأخرى الآن. سيعني ذلك، ببساطة، ورغم سلامته النظرية، بناء مدن قضائية لمئات المحاكم التي سيعمل فيها عشرات آلاف الموظفين، وسجون احتياطية وعقابية لأعداد الموقوفين، ومساكن أو فنادق لمئات آلاف المدعين والشهود، في عمليات ستستغرق سنوات مهما كانت مستعجلة، وستنتهي بنتائج تشبه المجازر عملياً، لكن تحت سقف القانون..