icon
التغطية الحية

استنتاجات مدعومة بالأرقام.. هل يستحق طب الأسنان عناء الدراسة في الشمال السوري؟

2024.10.28 | 05:35 دمشق

آخر تحديث: 28.10.2024 | 12:33 دمشق

53
هل يستحق طب الأسنان عناء الدراسة في الشمال السوري؟ - (صورة أرشيفية / جامعة ماري)
 تلفزيون سوريا ـ خاص
+A
حجم الخط
-A

أثار البيان الصادر عن نقابة أطباء الأسنان في الشمال السوري، في شهر أيلول الماضي، موجة من التساؤلات والقلق بشأن مستقبل هذا التخصص الطبي، حيث حذرت النقابة المواطنين من تداعيات التوجه لدراسة طب الأسنان في ظل تحديات تواجهها المهنة.

وركز البيان على ضرورة التفكير ملياً في مدى جدوى دراسة هذا التخصص في الوقت الحالي، مشيراً إلى جملة من العوامل المؤثرة على سوق العمل.

تطرقت النقابة في بيانها إلى التشبع الكبير الذي يشهده قطاع طب الأسنان، والذي أدى إلى تضاؤل الفرص المتاحة للخريجين الجدد، كما أكدت أن هذا الوضع جعل من الصعب على الأطباء الشبان إيجاد فرص عمل تناسب مؤهلاتهم.

إلى جانب ذلك، كشفت النقابة عن انخفاض متوسط دخل أطباء الأسنان خلال السنوات الأخيرة بسبب المنافسة الشديدة التي تشهدها المهنة. هذا الانخفاض في الدخل يثير تساؤلات حول مدى استدامة المهنة وإمكانية تأمين مستقبل مالي مستقر للخريجين الجدد الذين يتطلعون إلى ممارسة طب الأسنان في المنطقة.

لكن التساؤلات لا تتوقف عند هذا الحد، فالتوصيات التي قدمتها النقابة لم تخلُ من الجدل، فهل كانت هذه التوصيات في محلها؟ هل تعكس فعلاً الوضع الراهن بدقة؟ هنا يأتي دور الأرقام والإحصائيات التي يمكن أن تقدم إجابة وافية عن مدى التناسب بين عدد أطباء الأسنان الموجودين في المنطقة وعدد السكان الذين يخدمونهم.

في هذا السياق، أجرى موقع تلفزيون سوريا بحثاً موسعاً قارن فيه بين الأرقام المتاحة حول عدد أطباء الأسنان وعدد السكان، وسيتناول التقرير هذه النتائج بالتفصيل، لتسليط الضوء على الواقع المهني والاقتصادي الذي يواجه قطاع طب الأسنان في المنطقة.

بيان نقابة أطباء الأسنان

أصدرت "نقابة أطباء الأسنان" في شمالي سوريا بياناً في 12 أيلول 2024، حذرت فيه من تزايد أعداد طلاب طب الأسنان في كليات جامعات المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، مشيرة إلى أن هذا الارتفاع قد يشكل تحدياً كبيراً يواجه القطاع في المستقبل، داعية المواطنين إلى التفكير جيداً قبل تسجيل أبنائهم في كليات طب الأسنان، مبررة ذلك بعدة أسباب.

ومن الأسباب التي ذكرتها النقابة:

  • تشبع سوق العمل: أشارت النقابة إلى وجود تخمة في عدد أطباء الأسنان العاملين، ما ينعكس سلباً على فرص العمل المستقبلية للأطباء الجدد.

  • انخفاض مستوى الدخل: بسبب المنافسة العالية بين الأطباء، يعاني القطاع من تدني الدخل للأطباء الحاليين، مما يجعل المهنة أقل جاذبية من الناحية الاقتصادية.

  • ارتفاع تكاليف الدراسة: عبء الدراسة المالي يثقل كاهل أسر الطلاب، وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في "المناطق المحررة".

  • طول فترة الدراسة: المهنة تتطلب فترة طويلة من الدراسة والتدريب، ما قد لا يتناسب مع تطلعات بعض الطلاب.

معلومات إحصائية حول قطاع طب الأسنان شمالي سوريا

عانت مناطق الشمال السوري من عجزٍ شديد في أعداد أطباء الأسنان بسبب تزايد هجرة الكوادر الطبية منها إلى الخارج وزيادة أعداد السكان النازحين إليها.

وأفاد المتخصص بطب أسنان الأطفال الدكتور مروان الموسى، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن هذا العجز بدأ بالتراجع مع تخريج أول دفعة من أطباء الأسنان شمالي سوريا عام 2021، وما زال العجز بتراجعٍ مستمر حتى وقتنا الحالي.

ووفق الطبيب، لا يبدو أن هناك مشكلة في الأعداد الحالية لأطباء الأسنان، ولكن يخشى من حدوث مشكلة مستقبلية ناتجة عن ازدياد مطرد في أعداد الأطباء الناتج عن كثرة عدد الكليات المرخصة وفتح أبوابها لأعداد كبيرة من الطلاب، وفي حال استمرت السياسة نفسها في استقبال هذه الأعداد سنكون خلال سنوات قليلة أمام حالة تضخم في أعداد أطباء الأسنان في شمال غربي سوريا.

ويبلغ عدد أطباء الأسنان العاملين في مناطق إدارة "حكومة الإنقاذ" 517 طبيباً، بحسب تصريح نقيب أطباء الأسنان في إدلب، الدكتور عباس الخلف لموقع تلفزيون سوريا، بينما يعمل في مناطق الحكومة السورية المؤقتة شمالي حلب 300 طبيب، وهو عدد تقريبي وفق الدكتور مروان الموسى، بسبب عدم الانتهاء من تشكيل نقابة مركزية لأطباء الأسنان شمالي حلب.

بذلك يكون مجموع الأطباء العاملين في شمال غربي سوريا 817 طبيباً، أما بالنسبة لعدد السكان في شمالي سوريا، فقد بلغ 5,389,560 نسمة وفق إحصاء "وحدة تنسيق الدعم".

وبناءً على ذلك، فإن نسبة أطباء الأسنان مقارنة بعدد السكان هي 1.5 طبيب لكل 10,000 مواطن، أي طبيب واحد لكل 6,600 مواطن.

ووفق الأرقام السابقة، يتبيّن أن معدل كثافة العاملين في طب الأسنان بالنسبة للسكان في الشمال السوري يبلغ 1.5 طبيب لكل 10,000 مواطن، وبتعبير آخر، طبيب واحد لكل 6,600 مواطن، وهذا المعدل منخفض مقارنة بالمعدل في سوريا عام 2010، والذي بلغ 7.2 طبيب لكل 10,000 مواطن، بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية.

يشار إلى أن اعتماد مقياس عدد الأطباء عالمياً يتم وفقاً لعدد الأطباء لكل 10,000 أو 100,000 من السكان، ويُعد هذا المقياس طريقة شائعة لتقييم كثافة العاملين في قطاع الرعاية الصحية، وخاصة لتحديد مدى توفر الخدمات الطبية للسكان في بلد معين.

أعداد الطلاب في كليات طب الأسنان شمالي سوريا

يوجد في الشمال السوري 5 كليات طب أسنان في جامعات إدلب وماري وحلب الحرة والجامعة الدولية للعلوم والنهضة والجامعة السورية للعلوم والتكنولوجيا، وحتى نهاية العام الدراسي الماضي 2023-2024، بلغ عدد طلاب طب الأسنان في هذه الكليات قرابة 1460 طالباً، 820 منهم في إدلب وماري، والبقية في شمالي حلب، وخاصة حلب الحرة التي تضم كلية طب الأسنان التابعة لها 586 طالباً وحدها.

وحتى لو تخرج هؤلاء الأطباء خلال السنوات الخمس القادمة مع افتراض ثبات عدد السكان لسهولة الحساب في ظل صعوبة توقع عددهم خلال السنوات الخمس المقبلة، يكون معدل كثافة العاملين في طب الأسنان لكل 10,000 مواطن يساوي 4.2، وهو أعلى من المعدل العالمي بنسبة غير كبيرة، وهذا يقود إلى نتيجة مهمة وهي أن المشكلة التي بدأ يتحدث عنها أطباء الأسنان لا تتعلق بأعداد الأطباء بقدر ما تتعلق بأمور أخرى سيتطرق لها التقرير.

"انطلاق من أسوأ الاحتمالات"

قال طالب طب الأسنان في جامعة "ماري" في إدلب، الحارث الموسى، إنّ المشكلة لا تقتصر على اختصاص طب الأسنان وحده، بل امتدت لتشمل كل الاختصاصات؛ بسبب ازدياد أعداد الخريجين والإقبال على الدراسة لا سيما بعد الاستقرار النسبي في شمال غربي سوريا.

وأضاف الموسى في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "بالنّسبة لبيان النقابة، أرى أنه كُتب انطلاقاً من أسوأ الاحتمالات، وهي بقاء الوضع على ما هو عليه بعد 5 سنوات من الآن، حينها ما هو موقف سلطات الأمر الواقع أمام هذه الأعداد من الخريجين؟، وفي الوقت الراهن أقدّر عدد الأطباء ضمن المجال الطبيعي، لكن لدينا في المنطقة نسبة بطالة وفقر مرتفعة، وبالتالي يمكن القول إن كثيرا من المرضى ليس لديهم قدرة على تحمل تكاليف العلاج، لذلك سيتجنبون الذهاب إلى المراكز والعيادات السنية، والنتيجة انخفاض الدخل لدى الأطباء".

وأردف: "الشيء بالشيء يُذكر، آنذاك، في حال حصلت الجامعات على اعتماد في الخارج بالتزامن مع عودة المهجرين إلى بيوتهم، سيكون لدينا توزع طبيعي للخرّيجين على امتداد سوريا دون البقاء ضمن سجن كبير في شريط حدودي، وقسم آخر سيفكر بالسفر بحثاً عن فرص عمل أفضل أو لاستكمال الدراسة في الخارج".

أما مضر درويش - الطالب في كلّيّة الطبّ البشريّ بجامعة حلب - فقد قال إنّ "الزيادة في عدد أطبّاء الأسنان الأكفاّء ستعزّز من الرعاية الصحيّة للفم والأسنان وثقافة المحافظة عليهما في المجتمع من جهة، وستخفّف من ازدحام العيادات، وتضارب المواعيد من جهة أخرى، وسترفد مجتمعنا بالكثير من الأطبّاء والممارسين الصحيّين من الأكاديميّين والمهنيّين المختصّين في معالجة أمراض الفم والأسنان والجراحة الفكّيّة، ممّا يحدّ من مزاحمة هذا التخصّص بالذات من قبل أولئك الذين يعملون به من غير الأكاديميّين في بعض الأحياء هنا وهناك دون ظروف تعقيم خصوصاً مع انعدام الرقابة عليهم".

وأضاف درويش في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "ثم إنّ جامعة الأندلس الخاصة في طرطوس (الخاضعة لسيطرة النظام) قبلت في العام الماضي لوحده 300 طالب مستجد طب أسنان (...) فلماذا التشديد على منطقتنا الغنيّة بالمثقّفين من مهجّري مختلف المناطق السوريّة، بالتالي تخفيض الأعداد من الطلبة في هذا المجال المرموق أكاديميّاً ومجتمعيّاً!".

ردود على تحذير نقابة طب الأسنان

بحسب درويش، بالنسبة لتشبع سوق العمل ونقص الفرص في وظائف الخريجين، خاطب النقابة قائلاً: "هل بإمكانكم تقديم اسم خرّيج واحد من أطبائنا الخرّيجين لم يجد فرصة عمل؟ على العكس تماماً هناك العديد منهم يعمل في مراكز تخصّصية ولديه عقد عمل في منظمة، بالإضافة إلى عمله في عيادة خاصّة، أعرف مجمع أورلاك التخصصي في طب الأسنان لوحده يوظّف أكثر من 40 طبيباً في مراكزه من خرّيجي جامعتي إدلب العامّة وماري الخاصّة.. على سبيل المثال لا الحصر".

وتابع: "بالنسبة لانخفاض مستوى الدخل: أرزاقهم وأرزاقكم على الله، هذا ليس شأن البشر مطلقاً، ثمّ لماذا هذه الأرقام المخيفة في الأجور لدى بعض الأطبّاء؟ ألا تعتبر المطالبة بتخفيض أعداد الخريجين من أجل المحافظة على التسعيرات المرتفعة ضرباً من ضروب الأنانيّة وحبّ الذات؟ أنكون نحن والظروف القاسية معاً على شعبنا الذي يرزح أكثر من نصفه تحت خطّ الجوع وأكثر من ثلثيه تحت خطّ الفقر؟ أليس من حقّ الفقير أن يعالج أسنانه؟".

وأردف: "أمّا عن ارتفاع تكاليف الدراسة؛ فهذه مسؤولية الأهل الذين يسجّلون لأبنائهم في هذا التخصّص المكلف، ناهيكم عن وجود المنظمات المختلفة في اعزاز وهيئة الزكاة في إدلب وغيرها من الجهات التي تساعد الطالب وتخفّف من وطأة التكاليف عنه وعن معيله، أمّا عن طول فترة التدريب والدراسة فهذا شأن كل التخصّصات، ومن لا يتعب -في أي فرعٍ دراسيٍّ- لا يجد ثمرةً لتعبه، ولا جدوى لشهادته الجامدة".

وختم: "بدلاً من أن تطالبوا الأهالي بعدم تسجيل أبنائهم في هذا الفرع، على العكس، شجّعوهم بالتسجيل في هذا الفرع مع التحلّي بأخلاقيّات المهنة، وتعاليم الدين، ومراعاة العرف المجتمعيّ، ومن أجل نجاح كلّ ذلك، اطلبوا من مجالس التعليم أن تراعي كلّ المعايير اللازمة والضروريّة بالمقارنة مع أعداد المقبولين من حيث المعينات التعليميّة، والمعايير الحقيقيّة، وحدّدوا أعداد المقبولين سنويّاً في كلّ جامعة بما يتلاءم مع تجهيزاتها وأكاديميّيها ومستواهم التعليمي والأكاديمي، كي لا تصبح الأمور عشوائية، فالمهم النوع، لا الكمّ، والمطلوب أن يضاهي خرّيجنا أكفأ الأطبّاء على مستوى الإقليم والعالم".

المشكلات التي يعاني منها قطاع طب الأسنان

بحسب المعلومات الإحصائية التي جمعها موقع تلفزيون سوريا، لا تكمن مشكلة قطاع طب الأسنان حالياً ولا حتى خلال السنوات القليلة القادمة في أعداد الطلاب بقدر ما تكمن في عدد من النقاط، أبرزها:

  • انخفاض مستوى دخل المواطن: ما يضعف لديه ثقافة الزيارة الدورية لأطباء الأسنان، واقتصار نسبة كبيرة من السكان على زيارة طبيب الأسنان في الحالات الطارئة، واعتماد الإجراءات الأقل كلفة مثل القلع. كما أن انخفاض مستوى الدخل يؤثر على هامش الربح لدى الأطباء، حيث يعمد قسمٌ منهم إلى تخفيض أسعار العلاج وهامش الربح من باب الرحمة بالفقراء، بينما يقوم البعض الآخر بتخفيض الأسعار من باب المنافسة، ليتراوح متوسط أجر المعالجة اللبية (سحب العصب) في الشمال السوري بين 15 إلى 25 دولاراً، بينما يبلغ أضعاف هذا الأجر في الدول المجاورة.

  • التوزيع الجغرافي غير المتوازن للأطباء وعياداتهم: حيث يتركز القسم الأكبر من العيادات في المدن الكبيرة مثل إدلب، والدانا، وعفرين، واعزاز، والباب، بينما ينخفض التوزيع في القرى، وهذا يزيد بشكل واضح من معدل الأطباء إلى عدد السكان في المدن الكبيرة، ويؤدي إلى انخفاضه في الأرياف.

  • قلة أعداد المختصين: ما يجعل أغلب الأطباء يقدمون في عياداتهم خدمات متشابهة. إنّ زيادة أعداد المختصين في الاختصاصات والمجالات المكملة يساهم في تطوير قطاع طب الأسنان ويوسع مجالات العمل فيه، وهذا يساعد على احتواء أعداد أكبر من الأطباء.

  • ممارسة "القرباط" لمهنة طب الأسنان: ما يجعلهم قطاعاً موازياً يستقطب الفئات الأشد فقراً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ممارسة "القرباط" لطب الأسنان تعني ممارسة غير قانونية وغير منظمة يقوم بها أفراد من مجموعات أو عائلات، غالباً تكون من البدو، مثل "القرباط" أو الغجر في بعض المناطق. هؤلاء الأفراد لا يمتلكون المؤهلات العلمية أو التراخيص اللازمة لممارسة الطب أو طب الأسنان، لكنهم يقدمون خدمات علاجية أساسية بأسعار زهيدة للفئات الأكثر فقراً من السكان.

التوصيات

بناء على المشكلات السابقة، يمكن تلخيص التوصيات بالآتي:

  • ضرورة اعتماد خطة مشتركة لدى مختلف كليات طب الأسنان لتحديد الأعداد التي يمكن قبولها في كل سنة بما يضمن عدم حدوث تضخم مستقبلي في عدد الأطباء مقارنةً بعدد السكان.

  • استكمال تشكيل نقابة شمالي حلب، وتعزيز العمل المشترك مع نقابة إدلب للمساهمة في حماية وتطوير قطاع طب الأسنان والعاملين فيه.

  • العمل على إجراءات تضمن توزيعاً أفضل لعيادات طب الأسنان وعدم تركز معظمها في المدن الكبيرة.

  • دعم وتطوير الدراسات العليا الاختصاصية مثل جراحات الفك واللثة، وزرع الأسنان، والتقويم، وطب أسنان الأطفال، وغيرها من الاختصاصات التي توسع من مجالات العمل في طب الأسنان.