يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليُروا أعمالهم
حين كنا نخرج مسرعين من المبنى تشكّلت أولى انطباعاتي عن الزلزال الذي كان قد وقع للتو. لم يفقد الجيران آدميتهم، فانتظروا مرور امرأة عجوز عبر الباب الخارجي ببطء فرضته عكازتها الحديدية وجسمها الثقيل. لم أكن قد استوعبت ما حدث لكن درجة القلق التي لم تصل إلى التدافع على فرصة الحياة أشعرتني بالأمان. فما يصل بين الخارجين من منازلهم وتلك الكارثة القادمة من أعماق الأرض أرهف مما نعرف، وبما أن الطين لم يتقافز طلباً للنجاة فالأمور بخير. أو على الأقل كان هذا ما توهمته قبل أن تصل الأنباء من مناطق أخرى نالها قدر أكبر بكثير من الدمار مما حصل في مدينة غازي عنتاب التركية التي أقطنها.
يبدأ الزلزال ذاتياً ثم يتوضّع بالتدريج، لكل منا هزته قبل أن تتجمع المعلومات وتستقر في تقرير شامل وبارد. وهكذا أخذنا نفهم ببطء حجم حصتنا من حدث كان قد ترك نتائج مرعبة في مدن تركية أخرى، كأنطاكية ومرعش، وفي الشمال السوري، كسلقين وجنديرس والأتارب، وفي حلب واللاذقية وحماة من مناطق النظام. وبالتدريج أخذنا نشعر، نحن بعض سكان عنتاب، أننا نحظى بمؤازرة الأصدقاء أكثر مما نستحق، وبالنيابة عن مدن مكسورة تتناثر الفجيعة في كل شوارعها. لكن هذا لم يكن رأي كثير من الأتراك والسوريين الذين دفعهم الرعب إلى الإقامة في سياراتهم، أو في بعض المقاهي، ثم في مراكز عامة للإيواء، أو في الخيام. لم يكن هذا ضرورياً من ناحية عملية وبالقياس إلى حجم الضرر الفعلي، لكن من الذي يستطيع السيطرة على الذعر الجماعي في ظل الانشغال بأولوية المناطق المنكوبة؟
حين تختار منزلك تفكر في عوامل متنوعة؛ المساحة والحيّ والطابق والمواصلات والإكساء، من دون أن تنتبه إلى أن أحد الجدران يقف ببراءة ماكرة وهو ينتظر أن ينقض عليك ذات فجر مباغت بعد سنوات. أفكر في هذا الآن وأنا أراقب الشقوق القديمة والمستجدة في الجدار. يؤكد الجميع أنهم لن يرجعوا إلى بيوتهم قبل أن تفحصها لجنة هندسية، فيما اكتفيت بمؤشر عودة القطط إلى جولتها الكسولة في الفناء واستلقائها المسترخي في حوض الزرع لتتعرض لشمس الضحى.
فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره
خلال سويعات تحولت آلاف الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر لبث الاستغاثات وجمع المعونات وتنظيم الحملات. قفز لاهون وساخرون وخاملون إلى أتون المساهمة في الفعل بحرقة بشكل إسعافي. اختفت العدمية وامتلأ التايملاين بالرافعات والحفارات والبواكر وناقلات الأنقاض، بالبطانيات وملابس الأطفال ومطربانات الزيتون، بحسابات المنظمات الموثوقة وعناوين العائلات العالقة تحت الأرض. في المناطق المحررة انتشرت صور الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، فرحين حيناً وقلقين أحياناً ومرهقين دوماً. في المدن التي يسيطر عليها بشار الأسد عملت منظمات إنقاذ متعددة ولم يجر التركيز على إحداها. وفي الطرفين عمل الأهالي بأنفسهم، حفروا بأيديهم وزودوا الآليات بالوقود في انتظار أن يطل ذووهم من تحت الردم، في أمل كان يتناقص بالتدريج مع تقدم عدّاد الساعات في علقم الترقب.
رغم تعب السنوات الماضية والاستنزافات المتتالية في كلا الضفتين؛ أوجد الناس شبكات من التضامن الحار والفاعل الذي كاد أن يخترق الهوة بينهما أحياناً
رغم تعب السنوات الماضية والاستنزافات المتتالية في كلا الضفتين؛ أوجد الناس شبكات من التضامن الحار والفاعل الذي كاد أن يخترق الهوة بينهما أحياناً، لكن انشغال كل أصحاب هدم بجثث أحبائهم حال دون ذلك، فضلاً عن السلطات القائمة التي فعلت ما في وسعها للاستئثار بسمعة تلبية حاجة مناطقها، معرقلة أي بادرة تعاون أو تعاضد قد تسمح لحكومة طرف آخر بأن «تعلّم» عليها، حتى ولو كان الثمن إعاقة أعمال الإنقاذ.
ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره
كالعادة كان للنظام الحظ الأوفر في المتاجرة حتى بالكوارث الطبيعية، فمن جهة استأثر بالمساعدات التي قدمتها بعض الدول لسوريا، بما أنه يحتل التمثيل الرسمي للبلد حتى الآن ورغم كل شيء، ومن جهة أخرى استغل الفرصة لتأكيد الإشاعة التي يبثها بين مواطنيه، والتي تقول بأن سبب ما يعانونه من أوضاع إنسانية وخدمية صعبة هو العقوبات الأميركية في قانون قيصر، مطالباً بإلغائها، على الرغم من أن هذه الحواجز لا تطول المساعدات الإنسانية والصحية.
بعد أيام من الكارثة زار بشار الأسد مدينتي حلب واللاذقية، مصطحباً زوجته، أسماء الأخرس، التي تعبُر بشكل مطّرد المساحة الإنسانية المحددة لزوجة رئيس و«سيدة أولى» إلى المشاركة الفعلية في الحكم. فقد نقلت رئاسة الجمهورية أن الزوجين اجتمعا «بأعضاء غرفة العمليات في مدينة حلب والتي تضم الجهات الحكومية والمنظمات والجمعيات الأهلية والفعاليات التجارية والصناعية القائمة على إدارة ملف الإغاثة»، واستمعا إلى «توصيف للواقع الراهن إثر الزلزال والأبنية التي تهدمت بشكل مباشر وعدد الضحايا الذي نتج عن هذا الدمار، والآلية التي تم وضعها سواء لجهة إزالة الأنقاض وانتشال الضحايا والمصابين، أو لجهة الاستجابة الطارئة»، قبل أن يزود الأسد الموجودين بتوجيهاته التي تضمنت «التفكير بشكل منهجي» واستغلال «خطط التعافي» لتنمية المدينة، منوهاً إلى أن «الحالة الإنسانية غير موجودة لدى الغرب»، مذكراً بجرائم الاستعمار القديم والحديث.
على مقلب مجاور كان دريد الأسد، ابن عمه الشهير رفعت، يدفع بابنته المفضلة شمس كي تصبح «برنسيس». فبعد أن أسس لها شركة باذخة لإنتاج العطور الطبيعية، وكانت دون الثامنة عشرة، يبادر الآن إلى تشجيعها للعب دور اجتماعي من موقع نخبوي. فقد بادرت الصبية، التي لم تبلغ العشرين، وبدعم من والدها «المعطاء والخلوق» كما تصفه، إلى توزيع سلات غذائية ومبالغ مالية على المتضررين المتجمعين في صالة رياضية باللاذقية، وفي قرية اسطامو بريفها، لتطمئننا أخيراً: «هلأ خلصت مشفى تشرين. الحمد لله الوضع كتير ممتاز والكادر الطبي مو مقصر أبداً»!
وفي الشمال لم تكن «فرصة» كهذه لتفوت على شهوة الاستعراض لأبي محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام، الذي صرّح، بوصفه «قيادة المحرر» العامة، بأنه يقف «إلى جانب شعبنا» في مصابه الجلل. وتحت تأثير الظرف يتجاوز، مثله مثل أسماء الأخرس، البناء الشكلي لحكومة الإنقاذ، قائلاً: «انطلاقاً من واجبنا، قمنا منذ اللحظة الأولى بتوجيه كافة المؤسسات الحكومية للاستنفار الشامل». وبالفعل لم تتوقف أجهزة الحكومة الصورية عن عقد المؤتمرات الصحفية ونشر البيانات والتصريحات والصور والإنفوغراف، مع حد أدنى من العمل المثمر. فيما بادر الجولاني إلى ترؤس لجنة استجابة طارئة والتجول، برفقة أبي مارية القحطاني العراقي، على المناطق المنكوبة، بما فيها جنديرس التي تقع تحت سلطة الحكومة المؤقتة، ودخلها بحماية حلفائه من العمشات والحمزات في «الجيش الوطني»!!