حاولت إيران السيطرة على الفضاء الافتراضي في سوريا بالإضافة إلى سيطرتها الاقتصادية والعسكرية، فمولت وسائل إعلامية ومنصات على وسائل التواصل الاجتماعي يجهل معظم السوريين أنّها تحت إدارة إيرانية.
وانقسمت سيطرة إيران على الإعلام السوري لفترتين الأولى كانت ارتجالية وتكللت بالفشل وكان هدفها تصوير المقاتل الإيراني على أنه مدافع عن السوريين، بينما نجحت التجربة الثانية في تفادي أخطاء المرحلة الأولى وتوجهت إلى السوريين لنشر البروباغندا الإيرانية.
ولم تقتصر السيطرة الإيرانية على المجال الإعلامي، بل امتدت إلى المجال الثقافي والجامعات وتحولت منطقة المزة لمركز أساسي للمكاتب التي تقود عملية الأدلجة.
بدايات متعثرة
تعرض الإيرانيون مع بدء انتشار الميليشيات التابعة لهم في الأراضي السورية -ولا سيما مع انتشار حواجزهم العسكرية التي كانت على احتكاك مباشر بالمدنيين- إلى ازدراء فئة كبيرة من السوريين ونفورهم بعد أن أدركوا أن بلادهم صارت تحت سيطرة "الاحتلال الإيراني"؛ الأمر الذي دفع بالإيرانيين إلى محاولة تلميع صورتهم في أذهان الشعب السوري بشتّى الطرق، فكان الإعلام هو الطريقة الناجعة لترويج فكرة "ملائكة يقاتلون على الأرض".
وبدأ الإيرانيون بضخ الأموال على مشاريع إعلامية لا يُستهان بها من خلال افتتاح مكاتب إعلامية وترخيص مواقع إخبارية بكوادر من السوريين الذين كانوا في معظمهم من الشيعة، لكن الإدارة كانت حكراً على الإيرانيين وتحت إشراف مكتب الفقيه بصورة مباشرة.
لكن تجاربهم التي استمرت لسنوات وتحت مسميات مختلفة حُكِم عليها بالفشل في معظمها؛ ومردّ ذلك بالدرجة الأولى إلى التأرجح في عمليات التمويل أو انخفاضها حتى تتوقف تماماً فينتهي المشروع. في عام 2017 تم إنشاء قناة جديدة تحت اسم "العالم سورية"، التي اعتبرها الإيرانيون هدية للشعب السوري بمناسبة انتصاره التاريخي على "المجموعات التكفيرية" بحسب ما صرّح به حينذاك رئيس قسم اللغات الأجنبية في المؤسسة الإيرانية "بيمان جبلي".
وانطلقت القناة بعد استقطاب الصحفيين والإعلاميين السوريين الذي يعملون في التلفزيونات والإذاعات السورية التابعة للنظام؛ وذلك بعد إغرائهم برواتب عالية وتأمين بيئة عمل مناسبة من خلال التجهيزات القوية في المكاتب. لكن "المطب الطائفي" الذي كان سبباً في زعزعة بقاء القناة هو إجبار إدارة القناة للإعلاميات السوريات على وضع شال على رؤوسهم داخل "حَرَم" القناة مهما كان توجههم وانتماؤهم الديني والطائفي؛ الأمر الذي جعل عددا كبيرا من الإعلاميين ينفرون من توجهات القناة وسياستها المهنية.
وبسؤال أحد الموظفين السابقين لديهم أخبرنا أن استمرار العمل لدى القناة كان بهدف "القبض بالدولار" -حسب تعبيره- وليس إيماناً برسالتها الإعلامية أو مبادئها الصحفية. أما السبب الثالث -بعد ضعف التمويل وعدم احترام انتماء الموظفين- والذي جعل من هذه القناة مشروعاً فاشلاً فهو قيام مديرها "ناجي كناني" بإضفاء الهالة الإيرانية على المواد الصحفية والبرامج الإعلامية، الأمر الذي دفع عددا كبيرا من الإعلاميين إلى مغادرتها.
هجرة من الداخل إلى الداخل
بدأ المسؤولون الإيرانيون بمحاولات الإصلاح بعد التجارب الفاشلة بسوء التخطيط والتنفيذ، وأدركوا بأنّهم لن يستطيعوا أدلجة المجتمع السوري بأساليبهم السابقة وخاصة بعد تكبدهم الخسارات في مشاريع ما إن أبصرت النور حتى اندثرت؛ فكانت النتيجة إغلاق مواقع مثل "المحاور" و"سيريا سكوب"... وغيرها.
وبحسب أحد الصحفيين الذي عمل معهم لسنة كاملة (فضّل عدم ذكر اسمه)، أنهم "في السنوات الثلاثة الأخيرة بدؤوا العمل على ترخيص مواقع إخبارية ومنصات إعلامية بكوادر سورية، ولكن هذه المرة دون النظر إلى الانتماء الطائفي أو الديني؛ إذ لن تتعجب من وجود صحفي مسيحي في كوادرهم، إلى جانب تجهيز المقار والمكاتب بمعدات عالية الجودة يتم شراؤها بصفقة قد تصل إلى أربعين ألف دولار من لبنان ثم إدخالها إلى سوريا، فضلاً عن رواتب الموظفين التي تعادل ضعف أو ضعفي راتب الموظف في إعلام النظام.
لكن ما حاولنا تقصّيه هو نوع البطاقات التي تُمنح للصحفيين وتُقدِّم لهم التسهيلات في المهمات الصحفية وعلى الحواجز العسكرية؛ فهي بطاقات شبيهة بالتي كانت ميليشيا الدفاع الوطني وميليشيا كتائب البعث تمنحها للمراسلين والمتطوعين، وتحمل رقماً واعترافاً من اتحاد الصحفيين السوريين والمستشارية الإيرانية؛ لذا تعد "بطاقة مزدوجة" صحفية وأمنية في الآن نفسه تمنح حاملها الحصانة وتحميه لكونه يتبع سلطة قوية في البلاد، وقد تسهل له المرور من طابور الفرن أيضاً! فكانت النتيجة التلقائية لذلك، هي هجرة الإعلاميين من الداخل السوري إلى الداخل السوري الإيراني؛ طمعاً بهذه المكاسب.
واللافت للانتباه هو دخولهم في مجال التمويل من خلال شراء أو المساهمة في منصات إعلامية موجودة مسبقاً وذات قوة في العالم الافتراضي، لتصبح تحت جناح إيران وشريكة في تنفيذ أجندتها السياسية بعيدة المدى في الداخل السوري.
وتابع الصحفي قوله: "من هنا أخذ حلم إيران بالسيطرة على الفضاء الافتراضي السوري بالتوسع فصار قاب قوسين وأدنى، وكانت النقطة الفارقة هي كفاءة الموظفين السوريين الذين تم استقطابهم بحنكة، لتصبح المعادلة: إعلاميون سوريون + تمويل إيراني = نفوذ إعلامي"
وبسؤاله عن النتائج الفعلية لهذه المعادلة، أخبرنا: "بدأ الإيراني يحصد نتائج عمله من خلال تفعيل دور اتحاد القنوات والإذاعات الإسلامية الإيرانية لرسم الخطوط العريضة لسياسته، وقد أُنشئت بعد ذلك مواقع علقت في أذهان السوريين لكونها تحمل طابعاً سورياً لا يقبل التشكيك، مثل موقع "أثر برس" الممول بشكل كامل من إيران، وموقع داما بوست".
الجدير بالذكر أن اتحاد القنوات والإذاعات الإسلامية الإيرانية أسس في عام 2007 وهو يتبع رسمياً لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيرانية التي تمثل الواجهة الإعلامية الفكرية للحرس الثوري الإيراني، وتنتشر فروعه في العراق واليمن ولبنان وقد تابع أعماله قاسم سليماني قبل مقتله ولا يزال تحت إشراف مكتب الفقيه. أما في سوريا فهو موجود تحت الاسم نفسه في منطقة المزة في دمشق وتحت جناحه جميع المكاتب والمنصات الإعلامية الممولة من إيران والتابعة لها.
وعند تصريف رواتب موظفي هذه المنصات الشهرية في هذه المنصات الإعلامية من الدولار فهي تتراوح بين 700 ألف ليرة سورية والمليون ونصف؛ ويختلف ذلك بحسب المسمى الوظيفي وحسب قوة السيرة الذاتية للموظف، مع أنّ أقل راتب في "داما بوست" هو ميلون ومئتا ألف ليرة سورية للمحررين.
كما أن بعض هذه المنصات تتعامل بطريقة الاستكتاب التي يتم فيها الدفع مباشرةً مقابل المادة المنشورة التي يقدمها لهم صحفيون من غير الموظفين لديهم، إذ تدفع "أثر برس" 25 ألف ليرة سورية مقابل المادة.
ومن جملة الإغراءات التي تقدمها هذه الجهات لموظفيها "العيدية" أو الهدية، وهو مبلغ مالي يقدّم للموظفين في مناسبات الفرح والأعياد الخاصة بهم مثل عيد الغدير، وتتراوح قيمة هذه العيديات بين 200 ألف ليرة وقد تصل إلى 400 ألف ليرة، إذ يعطي اتحاد القنوات والإذاعات الإسلامي مبلغ 250 ألف ليرة بالحدّ الأدنى، في حين يعطي "أثر برس" 150 ألف ليرة، ويختلف ذلك بحسب قوة تمويل الجهة المانحة، والمسمى الوظيفي للموظف، والمناسبة.
وفي المقابل فإن معاشات الموظفين في إذاعات خاصة تمويلها سوري من النظام أو جهات أخرى يتراوح بين 350 ألفا و600 ألف ليرة سورية.
أوتوستراد المزة: كازينو إيران الثقافي والإعلامي
لم يكن ضعف التمويل وسوء الإدارة وخشونة الإيرانيين في التعامل مع الكوادر السورية بالتضييق واختراق الخصوصية وفرض الرأي، هي الأسباب الوحيدة لتفكك العديد من خلايا إيران الإعلامية وإغلاق مكاتبها في سوريا، بل كان لـ تضارب المصالح دور أساسي في فشل هذا المشروع الإيراني؛ وحتى أساليب الحرب النفسية والدعاية السوداء والرمادية، فشلت كلها في تحقيق غايتها، وما حصل مع حسين مرتضى عندما أقيل من منصبه كمدير لقناة العالم وعُيِّنَ ناجي كناني (مدير قناة العالم سورية) بدلاً منه ليصبح مديرا لقناتين معاً، فاضطر الأول للعمل كمذيع في قناة الإخبارية السورية، لهو أكبر دليل على تضارب المصالح الشخصية وقوة أحدهما مقابل الآخر من جهة، ومحاولات تخفيض النفقات من جهةٍ أخرى.
وفي الوقت الذي تحولت فيه مناطق مثل السيدة زينب في جنوبي دمشق إلى ثكنة عسكرية لميليشيات إيران، تحولت منطقة المزة وسط دمشق إلى حاضنة ثقافية إعلامية لهم، إذا كانوا يتغلغلون فيها بافتتاح المكاتب وشراء العقارات في محيط الاتحاد في المزة فيلات غربية وبالقرب من سفارتهم على أوتوستراد المزة.
وعلى لسان إحدى الصحفيات المنحدرة من محافظة اللاذقية والتي عملت معهم سابقاً كمتخصصة في إدارة مواقع التواصل (فضلت عدم ذكر اسمها): "انطلق هذا الكازينو الثقافي والإعلامي في منطقة المزة بمتابعة من المستشارية الثقافية الإيرانية القابعة في منطقة المرجة، وكان الهدف منه غرس عقيدة جديدة بين السوريين (التشيُّع) وتنفيذ المخطط التوسعي الإيراني في سوريا لا عسكرياً فقط، بل ثقافياً واجتماعياً بالتلاعب بالعقول تارةً واستخدام وسائل الحرب النفسية تارةً أخرى من خلال تلميع صورة إيران وكأنها طوق نجاة السوريين، وإظهار المقاتل الإيراني حامياً للبلاد من الإرهاب".
وبالحديث عن الوسائل المتبعة في إدارة السوشيال ميديا تخبرنا: "يضم فريق السوشيال ميديا عادةً موظفاً متخصصاً في ما يدعونه الدعاية والحرب النفسية؛ ولا بدّ أن يكون على دراية كاملة وذا خبرة جيدة في تقييم المحتوى بما يتناسب مع استمالة العواطف أو تمرير فكرة مضادة أو رسالة مبطّنة أو ترويج عقيدتهم أو حتى زعزعة النفوس بما يضمن السيطرة على الهشّ منها".
وإلى جانب ذلك، لم يتردد الإيرانيون في إقامة حوزات علمية مصغرة يتم فيها تعليم اليافعين والأطفال من الشيعة وغير الشيعة، وحتى أبناء العاملين معهم، إلى جانب الدروس الدينية في "الحسينيات" التي تضم منهجاً كاملاً يشرف عليه المشايخ.
وعن ذلك تقول الصحفية: "لقد استغلوا حاجة السوريين فجعلوهم مقاتلين في صفوفهم على الجبهات أو إعلاميين تحت جناحهم بعد أن أغروهم بالمال والحماية، واستغلوا ضياع الطلاب السوريين وخوفهم على مستقبلهم فأغروهم بالمنح الدراسية والسفر إلى إيران لتعلم المنهج والعقيدة واللغة الإيرانية، ليعودوا إلى سوريا خدَماً لمشروع إيران التوسعي تحت مسمى رجال دين".
شركاء في الوطن والطرقات والجامعات
يغيب عن أذهان الإيرانيين أنهم محتّلون لهذه الأرض؛ إذ يرون أنفسهم شركاء في سوريا إلى جانب النظام، وفي الوقت الذي يقوم فيه هذا الأخير بنشر صوره في كل زاوية وشارع وفوق كل حاوية، اتبعت إيران الأسلوب نفسه بفرض وجودها على السوريين من خلال نشر الرايات والعبارات الطائفية وصور القتلى مثل صورة قاسم سليماني على لوحة إعلانية كبيرة عند أوتوستراد المزة، فضلاً عن إطلاق جائزة ثقافية باسمه "جائزة قاسم سليماني" للإبداع التي تهدف إلى استقطاب المثقفين وأصحاب القلم.
وفي محاولة لسحب طلاب العلم السوريين واختراق الجامعات السورية، أقيم مجمع السيدة رقيّة في منطقة دمشق القديمة باعتراف من وزارتي التعليم والأوقاف، وهو مجمع دراسي أنشئَ لتعليم الشريعة ثم توسع لاحقاً ليصبح جامعة كاملة تضم فروع: الإعلام واللغة العربية والحقوق والفلسفة والاقتصاد، قبل أن يتم إيقافه مجدداً من قبل حكومة النظام وإعادته إلى تدريس الشريعة والفقه فقط كسابق عهده.
ويقول عبد الله (طالب سابق في فرع الإعلام): "كانت الجامعة عبارة عن مقام داخل مقام، حيث كان يُفرض على جميع الطالبات ارتداء عباءة ووضع حجاب وكانوا يمنعون الاختلاط بشكل كامل، وحتى داخل قاعة المحاضرات كان الشباب يجلسون في جهة اليمين والبنات في جهة اليسار ويُترَك المنتصف كفاصل "شرعي" بينهم، وقد وصل الأمر إلى توجيه إنذار مع احتمال الفصل من الجامعة للطلاب الذين حاولوا الاختلاط مع الجنس الآخر".
وتابع عبد الله الذي تخرج في عام 2015: "لم نكن ندرس مواد الإعلام التخصصية فقط، بل كانوا يفرضون علينا مواد الفكر الإسلامي والمعارف الإسلامية التي تضم الفقه الشيعي في كل دروسها. وعلى أبواب الجامعة وفي الطرق المؤدية إليها كنّا نتعرض للتفتيش يومياً من قِبَل عناصر تابعين لحزب الله مع التأكيد على بقاء هذه الحواجز حتى يومنا هذا".
ينظر معظم العاملين مع الإيرانيين -سواء أكان عملاً عسكرياً أم إعلامياً- إليهم على أنهم "شوالات مصاري" ليس إلّا، بعيداً عن فكرة المبدأ أو العقيدة الذي سعت إيران إلى تحقيقها، وذلك بحسب ماورد على لسان شباب يعملون معهم إلى الآن.