لم يكن ما فعلته فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر مجرد حدث عادي، فعملية طوفان الأقصى شكلت تهديدا وجوديا للكيان الصهيوني، وجنبا إلى جنب أدخلت محور المقاومة في مأزق خطير لم يكن يرغب به. ورغم محاولات إيران التي تتزعم المحور بأن تتجاوز هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة إلا أن تلك المحاولات وصلت لمنعرج خطير قد ينتهي إلى الحرب.
موقف يتأرجح بين التخلي واللاتخلي
لم يكن تقدير الموقف سهلا على المخططين الاستراتيجيين الإيرانيين، فالتخلي عن المقاومة الفلسطينية تحت مسمى أن الفلسطينيين عزفوا منفردين لن يشفع لهم أمام الرأي العام العربي والإسلامي، بل هو سيؤدي إلى سقوط الركيزة الرئيسية التي يستند إليها مشروعهم التوسعي، أما الاشتراك في الحرب بشكل مباشر فقد تكون نتائجه أشد تدميرا لإيران ولمحورها، وفي المحصلة لمشروعها التوسعي.
ضمن هذا السياق ارتأى الإيرانيون اتخاذ موقف يتأرجح بين التخلي واللاتخلي عن الحليف الفلسطيني، فهم أوعزوا لأذرعهم أن تحرشوا بالكيان تحت عنوان "المشاغلة"، والمشاغلة ليست حربا كما أحب أبواق المحور تسميتها، وإنما هي محاولة لرفع العتب أرادها الإيرانيون مخرجا لهم من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد عملية "طوفان الأقصى" على أمل أن تتوقف حرب غزة دون أن تسقط حماس. ومن ثم فأهازيج النصر جاهزة.
تأخير الرد ليس جزءا من الرد
بعد اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية وإسماعيل هنية في قلب طهران حشر المحور في زاوية ضيقة، وسارعت كبار الشخصيات فيه (مرشد نظام الملالي ورئيس حزب إيران اللبناني) للتعهد برد مزلزل، ولكن تقدير الموقف هذه المرة كان أشد صعوبة وأخطر مما كان عليه عشية عملية "طوفان الأقصى"، خاصة أن خيار الرد "الهوليودي" أصبح مستهلكا وأثبت أنه غير ذي فاعلية في مجال الردع.
ضمن هذا السياق ارتأى الإيرانيون اتخاذ موقف يتأرجح بين التخلي واللاتخلي عن الحليف الفلسطيني، فهم أوعزوا لأذرعهم أن تحرشوا بالكيان تحت عنوان "المشاغلة"، والمشاغلة ليست حربا كما أحب أبواق المحور تسميتها
استطاع المحور أن يقنع الجميع أن الرد قادم لا محالة، ولكن على الرغم من خطورة ما تعرض له المحور من إهانة، وعلى الرغم من تورط أهم الشخصيات بالتعهد بالرد إلا أن المحور بدا مرتبكا، بل وبدا مفككا تتنازعه الخلافات. وتجلى الارتباك من خلال التأخر بالرد الذي اعتبره حسن نصر الله جزءا من الرد، ليتبين أنه أحد أشكال التسويف، فهذا التأخير أفسح المجال لرسائل التهديد والتخويف ولوصول العتاد الأميركي إلى المنطقة. كما تجلى التفكك في هيكل المحور بانخفاض نبرة الحوثيين ومبالغة النظام السوري بإظهار حياده، فعند الشدائد يتساقط الكثيرون.
تأخر الرد هو الرد ذاته
لحساباتها الخاصة استماتت الإدارة الأميركية من أجل نزع فتيل الحرب مع إحساس دفين بأن "نتنياهو" يحاول جر أميركا لحرب لا مصالح لها فيها، وفي السياق تفتقت أذهان الدبلوماسيين الأميركيين عن فكرة ذكية، فما دام الإيرانيون جعلوا كل تحركاتهم الدبلوماسية والعسكرية موجهة لإيقاف الحرب في غزة كي لا يقال إنهم تخلوا عن حلفائهم، ومن جهة أخرى لكي يسمونه نصرا ما كان يمكن الوصول إليه لولا الدعم الإيراني. مادام الأمر كذلك؛ فقد يكون التوصل لهدنة في غزة حلا مرضيا للإيرانيين.
وهكذا، إن استطاعت أميركا بجهودها المضاعفة أن تصل بالمفاوضات بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني إلى بر الأمان – أغلب الظن – سيتنفس الإيرانيون وحليفهم حزب إيران اللبناني الصعداء وهم يشكرون إدارة بايدن في قلوبهم محتفظين بالخطاب ذي الطابع العدائي لأميركا الشيطان الأكبر، وفي الوقت نفسه سيحتفلون بالنصر الإلهي الذي لعب فيه إرهاب إسرائيل من خلال تأخير الرد دورا حاسما، وعندها لا بأس إن قيل إن تأخير الرد هو الرد ذاته.
الاستعانة بصديق
في الرواية الشهيرة "1948" لـ"جورج أورويل" يأتي على لسان وزارة الحقيقة أن الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة. والقصد من هذا الاقتباس أن اللغة ليست مجرد نظام تعبير يستخدم رموزا وحسب، وإنما هي في الحقيقة تساعد على خلق العالم ذاته، وعلى المستوى السياسي تستخدم هذه الميزة للغة كسلاح فعال، إذ يتم صياغتها وشحذها لإيصال المعنى السياسي المقصود.
فعلى سبيل المثال عن طريق ترويض اللغة يستطيع الساسة صرف النظر عن الضحايا المدنيين لحرب على أنهم خسائر جانبية، وفي مكان آخر يمكن تصوير الحدث نفسه على أنه إبادة جماعية أو تطهير عرقي. لذلك، فإن أهم الفيالق لدى المحور المهلهل وأكثرها تأهبا للرد هو فيلق المطبلين الذين يجيدون ترويض اللغة والتلاعب بها وشحذها بمعان توحي للمتلقي بأن الهزيمة هي النصر. وهكذا إن بدا الموقف شديد الإحراج فما زال هناك أمل بالنصر من خلال الاستعانة ببوق، أو الاستعانة بصديق.
يعلم الإيرانيون تماما أنه في المحيط بيئة تنتظر سقوطهم بفارغ الصبر، فهم يدركون حجم المعاناة والآلام والقهر الذي جلبوه لشعوب المنطقة، وفي أحيان كثيرة لحكوماتها. وهم في الوقت نفسه يعلمون أن هؤلاء هم أعداؤهم الحقيقيون. لذلك فالتفكير بالرد من عدمه سيقع تحت تأثير هذه الوضعية في جانبه الأكبر، وأغلب الظن أن إيران ستتمكن من تجاوز هذه المعضلة في الوقت الراهن، سواء من خلال رد باهت يأتي بتوقيت يتراجع فيه زخم الحرب، أو من خلال اعتبار النصر المتمثل بإيقاف حرب غزة بديل عن الرد. هذا السلوك سمه ما شئت: دهاء، خبثا، جبنا، واقعية. ولكن لا يمكن أبدا أن تسميه حماقة، فالحماقة لها مختصون، ولها جمهورها في أماكن أخرى.