منذ بضعة أيام مرت على اللبنانيين ذكرى انتفاضة 17 تشرين الثالثة. الانتفاضة التي خرج فيها قسم كبير من اللبنانيين للتعبير عن غضبهم لما آلت إليه الأمور في لبنان ليتبع هذا التحرك سلسلة من المظاهرات والاعتصامات وتشكيل مجموعات ثورية للعمل السياسي. تحت مطرقة القمع والتيئيس والجوع تراجعت الموجات الشعبية ولكنها أسفرت عن غضب في نفوس اللبنانيين انتظر الجميع انعكاسه في الانتخابات النيابية كأول محطة فعلية لقياس مدى التغيير لدى الشعب وهو ما كان ولو جزئيا.
فأول خطوة إيجابية كانت بأن استطاعت المجموعات الثورية أن تجتمع بلائحة أساسية في كل قضاء وهو ما أسفر عن فوز هذه المجموعات في غالبية الدوائر وبنائب على الأقل. خرج الثوريون من الانتخابات بـ13 نائبا معتمدين على صوت المغترب بالإضافة إلى المقيم.
مقارنة بحجم الأزمة اللبنانية توقع كثيرون أن يكون حجم التغيير في المجلس أكبر من ذلك بكثير بخاصة مع غياب تيار المستقبل عن الترشح وبالتالي اتساع دائرة الفراغ على الساحة السنية، إلا أن التغيير الحقيقي لم يطل سوى 10% من المجلس في حين تقاسمت الأحزاب المعروفة 90% من المقاعد. مع ذلك فإن العارفين بالسياسة اللبنانية يدركون أن 10% ليست بالرقم السهل فأكبر كتلة نيابية في البرلمان لا يتخطى حجمها الـ15% منه وبالتالي فإن الكتلة التي انبثقت عن القوى الثورية تشكل وزنا يساوي من حيث عدد النواب كتلة حزب الله على سبيل المثال وبالتالي استبشر التغييريون من الشعب خيرا بالكتلة النيابية الجديدة.
القوى الثورية التي وصلت للحكم في البلدان العربية أول ما واجهته هو عدم إدراكها لحقيقة الواقع والدولة العميقة
بالعودة إلى بلدان الربيع العربي فقد اعتقدت الأغلبية بأن الخطوة الأصعب هي نزع الحاكم والوصول للحكم ولو جزئيا إلا أنهم عند وصولهم اكتشفوا الحقيقة المرة، وبأن الطريق لم يبدأ بعد وأن الصعوبات تنطلق اليوم وهو ما واجهه نواب كتلة التغيير في لبنان. فبعد بضعة أيام من الانتخابات انتهت الاحتفالات وبدأ الجميع يطالبهم بالإنتاج والتغيير المنشود.
إن القوى الثورية التي وصلت إلى الحكم في البلدان العربية أول ما واجهته هو عدم إدراكها لحقيقة الواقع والدولة العميقة، وعدم رسم خطة مواجهة مسبقة تتناسب مع حجم المرحلة والمسؤولية الملقاة على عاتقها، وهو ما كان في لبنان لتغرق كتلة التغيير بزواريب السياسة اللبنانية وتخرج في كل جلسة بكفي حنين.
هذا الفشل التشريعي والتغييري في الأيام وفي الأسابيع الأولى خاصة، انعكس مباشرة على صفهم الداخلي فالثوريون العرب عند أول منعطف ظهرت تشققاتهم الداخلية وعاد كل ثائر منهم إلى معقله القديم، وأفكاره السابقة وحتى جماعته التي كان يدافع عنها، وبدأت كل مجموعة منها تغني على ليلاها وتطرح أفكارها الخاصة دون الآخرين، حتى تحول اليأس باتجاه صفوفهم الداخلية وهو ما واجهته كتلة التغيير في لبنان. فعند أول منعطف وشعور بعضهم بعقم الإنتاج وملاحظة الأمر سريعا، اعتكف النائب وضاح الصادق عن حضور اجتماع الكتلة مطالبا بآلية عمل واضحة وتشكيل أمانة سر ومكتب دعم وتحديد استراتيجية عمل واضحة وتخطيط مسبق رافضا قرارات اللحظة الأخيرة.
إضافة إلى التخبط في كل استحقاق داخل المجلس، أتت دعوة عشاء السفارة السويسرية لتفجر الخلافات داخل الكتلة بعد دعوة النائب إبراهيم منيمنة دون علم الآخرين، بل على العكس مع رفض جزء من النواب لمثل هذه الدعوة التي اعتبروها تستهدف الطائف.
على إثر ذلك، ظهرت تشققات بين النواب إبراهيم منيمنة ومارك ضو على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تبادلوا الهجوم الناعم من جهة وفي البرلمان من جهة أخرى من خلال التنافس الخفي على المقعد نفسه في لجنة المال، كما أعلن النائب ميشال الدويهي خروجه من الكتلة!
لو أنهم على قدر المرحلة لاستطاعوا أن يتعالوا على الاختلافات الآنية نظرا لعمق الأزمة اللبنانية ليركزوا على المشترك الذي يساهم بنقل لبنان نحو بر الأمان
واجهت كتلة التغيير ما واجهته الثورات العربية، فعند الاستحقاقات وعند أول المنعطفات طفت على السطح اختلافات النواب أو المجموعات منهم، والود والهدف المشترك تلاشى سريعا أو بعبارة أدق أصبح هامشيا مقارنة بحجم الاختلافات الظاهرة، فاجتماع الكتل الثورية في البلدان العربية واجتماع نواب التغييرين كممثلين عن مجموعات لبنان الثورية كان ولد ميتا لسببين رئيسيين، الأول أن الممثلين أنفسهم ليسوا على قدر المرحلة وأنهم دون المستوى المطلوب، وهو ما أعربت عنه مجموعات التغييريين نفسها واصفة أحد نواب الكتلة بأنه لا يفقه من السياسة شيئا، وبأن آخر لا يربطه بالكتلة شيء بل يختلف معها في المنطلقات وغيرها من الاتهامات الشخصية، ولو أنهم على قدر المرحلة لاستطاعوا أن يتعالوا على الاختلافات الآنية نظرا لعمق الأزمة اللبنانية ليركزوا على المشترك الذي يساهم بنقل لبنان نحو بر الأمان. إضافة إلى إن النواب المذكورين والمجموعات الثورية في الوطن العربي لم تصل إلى الحكم بورقة تفاهم على الأساسيات حتى، بل كانت تجمعيتهم تجمعية انتخابات وأصوات وما إن وصلوا حتى ظهرت اختلافاتهم الجوهرية على شكل البلد المطلوب والحلول المقترحة أو النظام الأفضل للبلاد، وهو ما عانت منهم بعمق ثورات الربيع العربي من دون أن ننسى الطموحات الشخصية دون العامة لكثير من ممثلي الثورة في لبنان وبلدان الربيع العربي. أخيرا، فإن التغييريين أنفسهم وقبل الانتخابات قد أظهروا مشروعا تغييريا عملاقا أصبح عبئا عليهم حال وصولهم وهو برنامج تغييري من المستحيل تطبيقه ببضعة نواب ولا حتى بعدد كبير منهم نظرا للتوازنات الطائفية والإقليمية والدولية في لبنان.
لا يمكن بالتأكيد عند الحديث عن التغييريين أو ثوار الربيع العربي إهمال الضغط الخارجي وقوة الدولة العميقة، إلا أن مثل هذه التحديات من المفترض أن تكون متوقعة ومجهز لمواجهتها، إلا أن ما اصطدم به ثوار الربيع العربي من التركيز على الوصول إلى الحكم وليس ما بعده واختلافات مشاربهم الفكرية وأهدافهم والنزعات الفردانية دون وجود ضابط مشترك يجمعهم ويوجه هدفهم، إضافة إلى ضعف جزأ لا يستهان به منهم وتكبيرهم للمطلوب منهم وحجم التغيير الذي وعدوا الناس به جعلهم يغرقون سريعا أمام قرارات مطلوبة مصيرية جامعة متواصلة لم يستطيعوا اتخاذها. وحتى تخرج نخبة قيادية تعي هذه المشكلات وتتصدى لها بفكر منفتح، ستظل شعوبنا العربية تعاني وتئن.