لا يخفى على الصراع الحالي القائم بين الحليفين العضوين في حلف الناتو، تركيا واليونان، ذلك الصراع المستجد كل فترة باستراتيجية جديدة وأهداف مستجدة تغيّر قواعد وتكتيكات الاشتباك السياسي بين الطرفين.
تناولت وسائل الإعلام التركية باهتمامٍ بالغ ما نفّذته الطائرات اليونانية من مضايقة لطائرات "إف-16" التركية التي كانت تنفّذ مهام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) شرقي البحر المتوسط، فعمدت إلى وضع "قفل رادار" عليها مما أغضب أنقرة التي بلّغت سلطات الناتو وبعدها استدعت الملحق العسكري اليوناني لطلب إيضاحات بهذا الشأن.
قد تكون هذه المناكفات العسكرية بين الطرفين اعتيادية بسبب الصراع بينهما في ملفات الجزر وبحري إيجة والمتوسط، لكن هذه المرة الرسالة تخص طائرات "إف-16" أو ملف طائرات "إف-16".
اتهمت تركيا اليونان بأنها تعرقل عقد صفقة شراء طائرات "إف-16" التي تنوي تركيا شراءها من الولايات المتحدة الأميركية عبر اللوبي اليوناني في العاصمة واشنطن، وهذه الصفقة التي جاءت كبديل لطائرات "إف-35" التي مُنعت تركيا من اقتنائها بل وأُخرجت من المشروع نفسه، وهنا يمكن القول إن اليونان نجحت في منع تركيا من الحصول على هذه الطائرات بل ونجحت في إيجاد شرخ بين أنقرة وواشنطن وهذا يُعد انتصاراً سياسياً واستراتيجياً لأثينا، التي تحاول الاستمرار في هذا الانتصار عبر ملف طائرات "إف-16" لتمنع التفوق الجوي العسكري التركي وتحوله لصالحها عبر شرائها طائرات فرنسية وزيادة عدد القواعد العسكرية الأميركية على أراضيها والتي بدأت تقلق أنقرة.
رغم العلاقات الممتازة بين تركيا وروسيا، إلا أن ذلك لا يعني عدم تخوّف تركيا من الوجود العسكري الروسي في القرم شمالاً في البحر الأسود وفي الشمال السوري جنوبي تركيا، وما عدا ذلك لا توجد دولة في المنطقة لديها تفوق عسكري أو حتى تموقع عسكري يُقلق أنقرة (باستثناء اليونان)
لا ينحصر ملف طائرات "إف-16" فقط في مسألة التفوق الجوي بين البلدين، بل هو قراءة استراتيجية موسعة للواقع الإقليمي في الوقت الحالي لكلا البلدين، فأثينا تدرك مدى احتياج تركيا للقوة الجوية وبالأخص بعد تغير التموضع العسكري الروسي في المنطقة فرغم العلاقات الممتازة بين تركيا وروسيا، إلا أن ذلك لا يعني عدم تخوّف تركيا من الوجود العسكري الروسي في القرم شمالاً في البحر الأسود وفي الشمال السوري جنوبي تركيا، وما عدا ذلك لا توجد دولة في المنطقة لديها تفوق عسكري أو حتى تموقع عسكري يُقلق أنقرة (باستثناء اليونان)، وحتى وجودها في حلف الشمال الأطلسي يعتبر درعاً لأوروبا في وجه روسيا الفيدرالية (الدولة الصديقة)، لذلك تسعى اليونان لاستغلال ذلك الوضع لإضعاف تركيا من الناحية الجوية وتقديم نفسها كبديل مبدئي عن تركيا التي طورت علاقاتها مع روسيا وهذا يجعلها غير أهل لثقة حلف الناتو.
وتعلم أثينا أن الملف السوري يضغط أمنياً وعسكرياً على أنقرة، فنظام الأسد وإن لم يُعلن حالة الحرب على تركيا إلا أنها تعتبر وجود قواتها العسكرية في الشمال السوري "احتلالاً" ومن حقها إخراج تلك القوات بالطريقة المناسبة التي تراها، ومع وجود الحليف العسكري الروسي يجعل "النظام" أكثر جرأة في حال أراد الضغط على أنقرة بالتعاون مع حليفيها الروسي والإيراني.
على النقيض من ذلك ترسل تركيا رسائل للطرف الأميركي تحديداً بأن تركيا هي الدرع والثقل العسكري الحقيقي في وجه روسيا وغيرها، وخاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأن أوروبا كما أميركا يحتاجون إلى تركيا الآن وعليه فإن عدم دعمها بما تريد من أسلحة الطائرات الحربية، قد يغيّر توجهات أنقرة وفقاً لمصالحها وهذا سوف يترتب عليه تغيير جذري في معادلة القوى، وبهذا يدرك المسؤولون الأتراك أن هذه فرصة كبيرة ويمكن الاستفادة منها للضغط بشكل كبير على واشنطن لكسب صفقة "إف-16"، وربما بعدها العودة لشراء طائرات "إف-35".
رغم النجاح الكبير والتقدم السريع لتركيا في مجال الطائرات المسيرة ورغم ما حقّقته تركيا من نجاحات سياسية واقتصادية عبر مبيعات تلك الطائرات لدول عدة إلا أنها تحتاج لطائرات "إف-16" وغيرها ذات الثقل الحقيقي للتفوق الجوي والقوة الجوية الضارية سواء بالتلويح بها أو حين استخدامها إلى أن تصبح قادرة على تصنيع طائراتها بنفسها أو عبر شراكات مع دول صديقة وهذا بحد ذاته طموح كبير سوف يغير المعادلات العسكرية بشكلٍ كبيرٍ جداً.