قد يستحيل علينا كعرب مشرقيين، فهم كثير من المفردات التي يستخدمها سكان المغرب العربي في لهجاتهم المحكية، إلا أننا لا نتوانى عن البحث حين يتعلق الأمر بأغنية راقنا لحنها وإيقاع كلماتها، فتأخذنا في رحلة اقتفاء للمعاني، ننصهر بعدها ضمن الحكاية التي قامت عليها كلمات الأغنية، فنجدنا هناك؛ منشغلين دائمًا في تشكيل مقاربة وجدانية بيننا وبين شخوص الحكاية وأحداثها، كمن يبحر في قصة بخلفية موسيقية.
ويبدو أن هذا ما يميز الموروث الغنائي المغاربي (المغرب العربي الكبير)، فهو يحمل كمًا كبيرًا من السرد الحكائي العاطفي في مضمونه، كما يستند على إيقاعات وأوزان مبتكرة تجاوزت التأثر بالموسيقا العربية والغربية، وخلقت فضاءً خاصًا تغشاه أجواء صوفية روحانية. غير أن اجتماع الموسيقا والحكاية في آن واحد يضفي شغفًا إضافيًا لدى المتلقي. وعند البحث في هذا الشأن سنجد أمثلة كثيرة، بعيدة تاريخيًا، وقريبة وجدانيًا:
(هاكا ماما) حب يصطدم بواقع ديني وقبلي
تعددت الروايات التي تناولت أغنية (هاكا ماما)، واتفقت معظمها على مرجعيتها إلى التراث اليهودي في المغرب. وبحسب المهتمين بالتأريخ الشفوي المتداول في شمالي أفريقيا فإن جذور الأغنية تعود إلى قصة شاب قروي عاش في منطقة تقع بين مراكش وفاس المغربيتين، وبحكم عمله في تجارة الأقمشة وتجواله الدائم بالإضافة إلى صلابة التقاليد والأعراف التي لا تسمح بالزواج من خارج الملة، شكل لديه هاجس البحث عن حب حياته.
وفي إحدى رحلاته التجارية أصيب بوعكة صحية اضطرته للإقامة في أحد قصور تاجر من الطائفة اليهودية، وخلال فترة إقامته وقع في حب ابنة التاجر، لتنشأ بينهما قصة حب مستحيلة اصطدمت بواقع ديني وقبلي معقد، هذا ما أجبره على المكوث في مدينة محبوبته، وعيش التجاذبات التي فرضها الواقع عليهما. وبالرجوع إلى كلمات الأغنية يظهر لنا مدى تعلقه وتمسكه بها، من خلال التضرع لأولياء الله أن يحفظوها، ومحاولاته إقناعها بتجاوز الواقع الديني الذي فرض عليهما والقبول بالارتباط به. فيقول: (اللا لا ماما، وإذا عصينا وحنا لله تايبين). أي أن زواجهما لن يكون معصية لله طالما أنهما يعبدان ربًا واحدًا.
(خربوشة) شاعرة الثورة
تعد الأغنية الوحيدة التي انتقلت شعرًا عن "خربوشة الزيدية" حاملًا لتفاصيل قصة هذه الشاعرة التي واجهت ظلم وتنكيل القائد "عيسى بن عمر" من خلال الهجاء بأبيات شكلت حالة تمرد بين أبناء القبائل حينذاك.
الأغنية حملت عنوان واسم "خربوشة" فقط، وقد تناقلتها الأجيال على أنها شاهد على ملحمة شعبية.
فبعدما عاث هذا الحاكم فسادًا في مناطق حكمه، أبت "خربوشة" إلا أن تهجوه بكلمات مباشرة خالية من المجاز والمواربة.
"واخايتي لك آ ليام
وا ليام آ ليام، أيام القهرة والظلام
وا فينك آ عويسة، فين الشان والمرشان؟
شحال غيرتي من عباد؟
شحال صفيتي من سياد؟
بلا شفقة وبلا تخمام
حرگتي الغلة وسبيتي الكسيبة
وصگتي النسا كيف النعام
يتمتي الصبيان بالعراااام
وايلييي..".
لينتفض "عيسى بن عمر" ويقتل وينكل بعدد كبير من أبناء القبيلة التي انتمت إليها "خربوشة" التي لم تنجُ هي الأخرى من هذه المذبحة. علمًا أن الروايات تعددت بشأن الطريقة التي قتلت بها، إلا أن الأمر الوحيد المؤكد هو مقتلها على يد رجال القائد عيسى بن عمر.
"عالجبين عصابة" فراق.. من الجنوب التونسي إلى جزيرة جربا
وعن هذه الأغنية، روت المراجع التاريخية بأن أحداثها بدأت من منطقة "بن كردان" في الجنوب التونسي، حيث كان هناك شاب دمث الخلق، ومحل ثقة لدى الناس، إلا أن السبل تقطعت به، وأُقفلت جميع أبواب الحياة في وجهه، فلم يبق أمامه خيار سوى الهجرة. وبينما هو في طريق سفر بلا وجهة محددة، صادف قافلة تجارية، فقبل رئيس القافلة المتجهة إلى جزيرة جربا أن يرافقهم الشاب، كما وعده أن يجد له عملًا فور وصولهم إلى الجزيرة. وهذا ما حصل، حين توسط رئيس القافلة لدى أحد تجار الجزيرة بأن يشغل هذا الشاب معه ليكون عونًا ويدًا يمنى للتاجر الذي لم يكن لديه سوى ابنة وحيدة.
وبعد مرور مدة من الزمن، وبعد أن أصبح الشاب فردًا من عائلة التاجر، وجد نفسه مغرمًا بابنة التاجر الوحيدة وقد بادلته الفتاة الشعور ذاته. لكنه لم يجرؤ على التقدم وطلب الفتاة من أبيها.. فقد رأى في نفسه شخصًا غريبًا، فقيرًا غير مقبول من طبقة سيده. فبقي على صمته والتهاب مشاعره.. إلى أن جاء يوم مرض فيه التاجر مرضًا شديدًا.. فأفصح لابنته أنه قد أقر بتزويجها لابن عمها وأنه يريد لهذا الزواج أن يتم. وهكذا بدأت مراسم الزفاف. وقف الشاب يراقب محبوبته وهي تزف أمامه، وفي وصف هذا المشهد، قال:
"والله يا تعذيبي يا واحش قلبي من فراق حبيبي هيلا، هيلا يا شوشان
نما نما نما نمـــــــــــــــا
نزرعك زيتونه في وسط قلبي والله شو محلاه هيلا هيلا يا شوشان
نما نما نما نمـــــــــــــــا
نزرعك تفاحة في وسط قلبي والله شوفو جراحه هيلا هيلا يا شوشان
نما نما نما نمـــــــــــــــا
عالجبين عصابه يا دايمه فوق الجبين الفم بيضحك هيلا هيلا يا شوشان
نما نما نما نمـــــــــــــــا".
"دفنتها في الرملة على شط بوزفيل" الشيخة الرميتي، غناء لكسر التابوهات
"يا جيش البحرية وكلاني الحوت" في هذه الأغنية تتحدث مغنية الراي الجزائرية "الشيخة الرميتي" عن فتاة تم الاعتداء عليها من قبل أحد جنود البحرية، فبدأت بزيارة أضرحة الأولياء الصالحين للتضرع إليهم كي يستروا عارها. وفي النهاية عندما أيقنت بعدم جدوى ما تفعله، قامت بإجهاض حملها على شاطئ بوزفيل (شاطئ في مدينة وهران) ودفنت مولودها في الرمال.
"يا جيش البحرية وكلاني الحوت
البحر حڤرني، أدالي فونارتي
نزور سيدي المجذوب ستار العيوب
دفنتها في الرملة على شط بوزفيل
دفنتها في الرملة وعزاني الحوت".
ومن خلال هذه الأغنية نلاحظ أن "الرميتي" تجرأت على الغناء عن أمر يعد في تلك المرحلة من المحظورات. وقد وصفت "بمطربة المحرمات" كونها تجاوزت في معظم أغانيها التابوهات والأعراف المتبعة، فغنت عن الخمر والجنس وهاجمت المجتمع المحافظ الذي يجرم دخول الإناث في علاقات خارج إطار الزواج. حتى تم إجبارها على ترك بلدها.
كثيرة الحكايات التي طرحت كأغنية وقليلة النسخ الأصلية بأصوات مغنيها الأوائل، إلا أن المطربين الشباب أخذوا على عاتقهم إحياء تلك الأغاني المسرودة.. كما تم إدخال التقنيات الجديدة في عملية الإحياء لتظهر الأغاني في حلة قريبة من أذن وروح الأجيال الحالية.