استطاع "أحمد الخالدي" أخيرًا أن يسجل ابنه في مدرسة ولكن ضمن حيّ بعيد عن مكان إقامته في غازي عينتاب جنوبي تركيا، بعد أن رفضت المدرسة التي تبعد عن بيته أقل من مئة متر تسجيل ابنه بحجة عدم توفر مقاعد دراسية إضافية، رغم أنه سارع منذ بداية العام الدراسي الحالي لتسجيل ابنه.
"لا أعلم متى امتلأت المقاعد الدراسية في تلك المدرسة فلقد كنت حريصًا على تسجيل ابني منذ فتح باب التسجيل للعام الجديد، لأني كنت قد سمعت سابقًا عن معاناة كثير من السوريين بتسجيل أبنائهم في المدارس القريبة من عناوين سكنهم، ورغم محاولاتي العديدة مع الإدارة وعرضي المال عليهم إلا أنها كلها كانت من دون جدوى"، يقول الخالدي لـ موقع تلفزيون سوريا.
من مدرسة إلى أخرى جال الخالدي وابنه ذو السبع سنوات، وبعد بحث طويل اضطر لتسجيل ابنه في مدرسة تبعد أكثر من 4 كيلومترات عن بيته، متحملاً مبالغ شهرية إضافية كأجرة المواصلات الخاصة بلغت 2500 ليرة (ما يتجاوز الـ 73 دولارا) كان "بغنى عنها"، حسب تعبيره.
حرمان من التعليم
يضمن القانون الوطني التركي، تلقي جميع الأطفال في تركيا بما في ذلك حاملي هوية الحماية الدولية أو المؤقتة التعليم الأساسي والثانوي مجاناً ودون أي عوائق، فيما تلزم قوانين وزارة التربية التركية التلاميذ بالتسجيل ضمن حدود عنوان سكنهم وهو ما يعد أكبر مشكلة يواجهها السوريون ولا سيما بعد تطبيق قانون حظر كثير من المناطق السكنية أمامهم.
"لم يقبلوا تسجيل معاذ في العام الفائت بحجة أن عنواننا ليس في نفس منطقة المدرسة، ولكن ما الحجة الآن بعد أن غيرت عنواني وأصبحت بنفس المنطقة"، يتساءل "أبو معاذ" المقيم في حي الجامعة بمدينة غازي عينتاب، مضيفاً، "من يعوّض ابني عن السنتين الضائعتين وكيف يمكن أن يتأقلم مع طلاب الصف الأول وهو الذي تجاوزهم بسنتين فيما لو سجلته العام القادم. الثانية سأعيده إلى معهد يتعلم فيه اللغة العربية رغم أنه غير معترف به في تركيا، لكن على الأقل سأضمن ملء وقت فراغه فلا حلَّ أمامي".
لدى سؤالنا "أبو معاذ" (الذي طلب الاكتفاء بذكر كنيته فقط) عن السبب الذي يمنعه من تسجيل ابنه ولو في مدرسة بعيدة، أجاب بأن "تلك الخطوة تشكّل كارثة بالنسبة إليه لعجزه عن دفع أجور المواصلات التي ستنقل ولده إلى تلك المدرسة والتي تصل لثلاثة آلاف ليرة (أي ما يعادل 90 دولارا)، في الوقت الذي تعيش فيه أسرته المكونة من أربعة أفراد على راتب لا يتجاوز الـ 20 ألف ليرة".
مع تلك الصعوبات حرم الطفل "معاذ" للعام الثاني على التوالي من الدخول إلى المدرسة، إلا "أن مخاوف الأسرة من إيقاف بطاقات الحماية المؤقتة (الكيملك) الخاصة بهم، تجاوزت مشكلة حرمان الطفل من حقه في التعليم ولا سيما بعد إيقاف الهجرة التركية بطاقات كثير من السوريين تسربَ أطفالهم عن المدارس"، حسب وصف الوالد.
خلال العام الدراسي الحالي بلغ عدد الطلاب السوريين نحو 100 ألف طالب، من ضمن 430 ألف سوري تحت الحماية المؤقتة في ولاية عينتاب التي شهدت تشديدا على السوريين وترحيل المخالفين بعد تحرك 41 منظمة مجتمع مدني تركي، في حزيران الفائت.
"التبرعات مقابل التسجيل"
التسجيل في مدارس بعيدة أو حرمان الطفل من التعليم خياران باتا يحاصران كثيراً من الأسر السورية وخاصة تلك التي تعاني أوضاعاً اقتصادية مزرية تمنعها من تأمين ممكّنات تدريس أبنائها من لباس وقرطاسية وأجور نقل، أما الخيار الثالث فهو دفع مبالغ مالية لإدارة المدرسة والتي تسميها "تبرعات مدرسية".
"منى.ن"، واحدة من السوريات المقيمات في حي غازي مختار باشا ضمن منطقة شاهين بيه في عينتاب، ذهبت لتسجل ابنها في الصف الأول بالمدرسة القريبة من منزلها، مصطحبةً معها مترجمةً لتسهيل التسجيل، لكنها لم تنجح بذلك رغم عرضها أمولاً كتبرعات للمدرسة والسبب هو عنوان سكنها المقيّد في منطقة بعيدة.
"أسكن في غازي مختار، أما سكني المقيّد لدى الحكومة هو في منطقة أخرى بعيدة تسمى أرطغرل غازي، لذلك لم ترضَ إدارة المدرسة تسجيل ابني الوحيد وهذا حقهم لأنني مخالفة من الناحية القانونية، لكن هل الحلّ حرمان طفلي من سنة دراسية كاملة"، تقول منى التي اتجهت إلى مدرسة أخرى رفضت في البداية تسجيل طفلها لذات السبب ثم وافقت بعد أن عرضت على الإدارة أمولاً كتبرعات للمدرسة.
تضيف منى، "طلبت منّا الموظفة المسؤولة عن التسجيل مبلغ خمسة آلاف ليرة وأن نذهب إلى المدرسة الموجودة ضمن مكان سكننا المقيّد في (أرطغرل غازي) لتثبيت ابننا هناك ثم تقوم هي بنقله. وبالفعل ذهبنا إلى المدرسة لكن الإدارة رفضت استقبالنا متعللةً بأن التسجيل حالياً للطلاب الأتراك فقط رغم أننا اجتمعنا في المدرسة مع أسرة سورية كانت تسجّل ابنها هناك".
تتابع منى، "عدنا أدراجنا إلى الموظفة كوننا دفعنا ذلك المبلغ لنخبرها بما جرى فما كان منها إلا أن طلبت أوراقنا الشخصية لتسجل طفلي مباشرة خلال نصف ساعة فقط، بعد أن تواصلت مع إدارة مدرسة أرطغرل غازي".
مشكلة عدم وجود قيد سكني في نفس منطقة المدرسة بالإضافة لعدم وجود قرارات واضحة تبين آلية تسجيل الطلاب والاستثناءات بهذا الخصوص والحالة المعيشية المتدهورة التي يعانيها السوريون كلها أسباب أدت لتسرب أكثر من 400 ألف طفل سوري من أصل 730 ألف طالب، ولا سيما بعد كارثة زلزال شباط 2023 الذي ضرب عددا من الولايات التركية الجنوبية وأدى لنزوح عدد كبير من السوريين منها وفقدانهم عناوين سكنهم.
التبرع للمدارس.. قانونية ناقصة
في آب من العام الفائت نشرت صحيفة "جمهورييت "التركية تقريراً، أشارت فيه إلى أن المدارس الحكومية باتت تطلب مبالغ محددة تحت اسم "تبرع"، باعتبار اختلاف الجودة بين هذه المدارس، إذ يضطر بعض الآباء الراغبين في تسجيل أبنائهم في المدارس التي اختاروها بدلاً من التسجيل المبني على العنوان، التبرع بمبالغ تبدأ من 5 آلاف ليرة تركية وتصل إلى 120 ألف تحت اسم رسوم التسجيل.
وحسب التقرير الذي نقل عن "عمر يلماظ"، رئيس اتحاد أولياء الأمور، أن "المشكلة مخالفة للدستور ولم يتم اتخاذ أي إجراء لمنعها، كما أن أكبر مشكلة هي عدم وضع مخصصات كافية للمدارس وبالتالي تبدأ هذ المدارس في الاعتماد على الأموال التي يجمعونها من الآباء لتغطية النقص".
من جهتها، تقول "عبير عبد المعين"، المنحدرة من ريف دمشق وتعمل مدرّسة في إحدى مدارس عينتاب، إن "المدارس ملتزمة بتسجيل نسبة معينة من الطلاب السوريين، باعتبار أن الأولوية للطلاب الأتراك وفي حال اكتمال العدد يغلق باب التسجيل تحت أي ظرف، لأن الصفوف المدرسية تستوعب عددا معينا من الطلاب".
وأضافت لـ موقع تلفزيون سوريا، أن الأموال التي تؤخذ من أي أسرة سواء من السوريين أو الأتراك ليست إجبارية أبداً وغير محددة، وإنما هي كيفية تدخل لصندوق المدرسة كتبرعات ومساعدات للطلاب، كما أن هناك كثيرا ممّن لا يتبرع بالمال، وإنما يقدمون تبرعات عينية كستائر وخزائن للصفوف، أو غير ذلك، لافتة في ختام حديثها إلى أنه في حال اشتراط دفع أي مبلغ مقابل تسجيل الطالب فـ بإمكان ذوي الطالب تقديم شكوى رسمية إلى مديرية التربية.
ولم تتناول اللائحة القانونية لوزارة التربية التركية الحديث الصريح عن الحق في تلقي المدارس التبرعات أو إجبار الطلاب على دفعها، إنما تناولت تعاون ذوي الطلاب مع المدرسة لضمان زيادة جودة التعليم في المدرسة، في حين منعت الفقرة الثانية من المادة الخامسة عشرة من اللائحة القانونية ذاتها الإدارة من إجبار أولياء الأمور على التبرع تحت أي ظرف من الظروف، أو جمع التبرعات أو المساعدات خلال فترة التسجيل في المدرسة.
المسار القانوني في حال التبرع "الإجباري"
في حديثها لتلفزيون سوريا، تؤكد "إناس النجار"، مديرة الاتصال باللجنة السورية التركية المشتركة، إنه يمكن تقديم شكوى على إدارة المدرسة التي ترفض تسجيل الطلاب السوريين غير المخالفين وذلك في مديرية التربية التابعة للولاية التي يقيم فيها الطالب باعتبار أن الجانب التركي منفتح على التعاون مع الأهالي، نافية أن يكون تقديم الشكوى سبباً للترحيل كما يشاع، حسب وصفها.
وتضيف النجار، أن "تركيا كفلت حق التعليم للاجئين السوريين القانونيين على أراضيها، وقد ضغطت على الأشخاص الذين لا يملكون ثبوتيات قانونية أو اللذين لديهم مشكلة في الثبوتيات للمسارعة في تصحيح أوضاعهم القانونية ودفعهم إلى تسجيل أبنائهم في مدارسها، لدرجة أنها هددت عبر إدارة هجرتها وكنوع من ضمان الوجود القانوني بإبطال بطاقات الحماية المؤقتة (كيملك) لكل أسرة لا تسجل أبناءها في المدارس، ورغم ذلك فالتعليم حق للطالب حتى لو كان وضعه غير قانوني".
وتعتبر النجار في ختام حديثها، أن مشكلة تقييد العنوان السكني هي المشكلة الأساسية في تسجيل الأولاد بالمدارس، معللة السبب بأن "مطالب المدرسة واضحة بضرورة الالتزام بالتسجيل حصرًا ضمن منطقة سكن الأسرة المقيّد لدى الحكومة، لا المنطقة التي تسكن فيها الأسرة والتي ربما تكون محظورة".