تنطلق رواية الكاتب أحمد الحسون (عكازات العتمة) الصادرة في آواخر عام 2023، والتي جاءت في 346 صفحة من القطع الوسط؛ من فكرة تنسب إلى شكسبير يقول فيها: "الدنيا مسرح كبير والناس ما هم إلا ممثلون، يؤدون أدوارهم على خشبته".
في هذا المسرح الكبير يتابع الكاتب نهجه العالق بين الرمزية القريبة المنال والتناول الصريح، فيطرح هماً ثقافياً بأبعاد وطنية، تبنى على قصة حب بدأت بالتقاء الشاب سومر والفنانة التشكيلية (تانيلا) المغربية من أم سورية في مسرح دمشق التي تخرجت من جامعتها، فتذكّر طفولته مع والده حين كان يحملق في الوجوه في عتمة الصالة فيرى ملامحه على وجه طفلة برفقة والدتها، تحمل بيدها وردة جورية خضراء وقد ظلّت صورتها عالقة ليلتقيها بعد سنين فيرى ملامحه فيها مجدداً وتنشأ علاقة حب بينهما، لكنها لا تلبث أن تعود إلى المغرب فتفيض رسائلهما الطويلة بالحنين إلى دمشق كانتماء عميق وبوصفها الحاضنة الأعظم لحبهما وارتباطهما بقاسيون وبردى كمعلمين خالدين يؤكدان هوية دمشق وأصالتها ويظلان حارسين لذاكرتها واصالتها في وجه أي انتهاك، كما يُستخلص من إجابة تانيلا على رسالة سومر (ص 205):
"وأنا اقرأ كل الحب لقاسيون وبردى حراس دمشق ومهدها أحلق معك في سمائها ونمشي بين غيماتها... أرسمكَ وأنت ترافقني بهذا القدر من الصفاء الذي يبدد كل المسافات كلما عانقتُ الألوان والأقلام في المرسم".
فدمشق بؤرة السرد المركزية ومسرحها، حيث يهدم سومر الحواجز بين المسرح والحياة بما يقدمه في البيت (البؤرة الصغرى) الذي يقطنه مع مجموعة من الجامعيين وعبرهم يتابع السرد الأحداث المؤثرة والمتقاطعة في الفضاء الروائي مع تحولاتهم ومصائرهم، وأولها رفض سومر تنسيق حوارات أحد السيناريوهات التلفزيونية الملتبسة وحين اصطحبه إرضاء لصديقه الأحدب ثم تناساه في سيارة الأجرة، ثم أعاده السائق فريد فأهمله ولكنه كان سبباً لعلاقة فريد مع المجموعة وتأثره بها، فيعدل عن استهتاره وعن ملاحقته لسلوى الشخصية الملتبسة التي توظف الإغراء لاستقطاب الشباب السوري نحو المركز الثقافي الإيراني.. بينما تتوطد علاقة المستأجرين عبر حملهم هموم الحاضر وتداخلاته اليوميّة والتي نؤدي إلى تحرير الأحدب من عزلته، ومما فرضته عليه قسوة أبيه ووصاياه، كرعاية المكتبة الضخمة بمجلداتها التي انهارت عليه، حينما كان لم يزل طفلاً وتسبّبت له بإعاقة في ظهره ظل يعاني من تبعاتها اجتماعياً وصحياً.
يهبط وحي دمشق الموغلة فينا... كلما هبت نفحات نهر الراين معتقة من بردى بقاسيونه إلى الراين بحدائقه وقدرته على تعميق العلاقة بين الإنسان و الانتظار
***
ينفرد سومر بالريادة وسعة التأثير ويغدو ملهماً للأحدب صاحب البيت الذي توزع غرفه الأصدقاء الملتزمون بنهج الحداثة والتحرر الاجتماعي متجاوزبن أمراض المجتمع التقليدي المحيط ومن ينكدون عليهم ويصفونهم بالخلاعة والفجور. إنهم بمجموعهم (عكازات العتمة) في مواجهة الاستلاب وعوامل انتهاك العاصمة دمشق التي تمتد وتتشظى في فضائها الروائي إلى شمال المغرب العربي وتختتم في باريس، المدينة التي يتماثل الأحدب فيها للشفاء والبراء بالتزامن مع تحقيق هدفه في اللقاء بالفنانة تانيلا الوجه الجندري المتكامل في رسالة الإبداع بين المسرح والفن التشكيلي وفي عشق دمشق والتأسي لمصيرها المرتهن للإيراني بعد ان غدت مرتعاً للفساد والمقامرة ومنتدى للسهرات المشبوهة التي يديرها مقهى الزيزفون ومديرته أم فواز الضحية (والأداة الطيّعة) لزوج شكلي يغرقها في شبكة الدعارة والتجارة غير المشروعة مستغلا ضعفها وأزمتها النفسية بعد تعرضها لاغتصاب اخيها. أما سلوى فهي تتقنع بالصحافة وتروج لشراء الولاءات لصالح المركز الثقافي الإيراني. وفي ثنايا ذلكً، يتم الكشف عن سبل انتهاك القيم الثقافة السورية العريقة عبر مؤسسات بيروقراطية فاسدة، ويلاقيهم في النهج ذاته جماعة، يديرها الشيخ عدنان المدعوم من جماعات الصحوة (السرورية الإخوانية) في السعودية والذي تجمعه صداقة مع الشيخ حسن مدير المركز الثقافي الإيراني ومع صاحب شركة إنتاج تلفزيوني لإنتاج سيناريوهات تاريخية بالاشتراك مع بعض الأشخاص والتجار الذين تجمعهم طاولة مسامرة ومقامرة في الطابق العلوي لمقهى الزيزفون على ربوة دمشق وضفة بردى.
وكل هذه المعطيات يوشحها المناخ الاغترابي منذ بداية الراوية، حيث يبدأ السرد بوصف ذاتي، لحظي واغترابي لما بعد الغروب في فرنسا، (ينسدل ستار المساء وقد خيم الضباب على أرصفة القطارات) ويتماهى في اللحظة ذاتها مع دمشق المستدعاة في ذاكرة ووجدان الراوي، حيث يقول:
"يهبط وحي دمشق الموغلة فينا ...كلما هبت نفحات نهر الراين معتقة من بردى بقاسيونه إلى الراين بحدائقه وقدرته على تعميق العلاقة بين الإنسان و الانتظار".
إنها لحظة وجودية مأزومة لمغترب، يعيش قلق انتظار العودة إلى بردى وقاسيون. وبذا نجد أنفسنا أمام تداخل فكري وعاطفي، يثلمه حنين الروح وتقع دمشق في جوهره، بينما يرسم ملامحه السردية راو يتنصّت على دواخل الحالمين المغيبين عن الوطن وتعيش دمشق ورموزها في عمق وجدانهم، لتظل عكازات ضرورية للأبناء العاجزين (حسب تعبير الكاتب) وقد بدت مقاومة العجز عند هؤلاء القادمين من مدن وبلدات وفي ذاكرتهم أسماء أنهارها وهمومها وهي انهار الوطن كالفرات ودجلة والعاصي. وكلهم يلتقون كثيمة عميقة على ضفاف بردى ليوزّع سومر الحوار بينهم، وربما كان موت سومر بحادث سيارة على طريق المطار مدبرا ولكنه فنياً كان ضرورة، ليأخذ الاحدب الناجي الوحيد في عزلته دوره فينكبّ على نصوص سومر ومراسلاته يفكّك رموزها وقد أعيته تلك الصفحات التي ضرّج أسطرها دم صديقه وملهمه (الخروج من الهامش إلى النص) ويتابع الحكاية مفتشاً عن جلال المخرج المسرحي وأستاذ سومر فيتفاجأ أن المسرح، قد تحوّل إلى شعبة أمنية وأن الأستاذ جلال اعتُقل ومات في المعتقل، فيقرّر البحث عن تانيلا، منتقلاً إلى المغرب ثم باريس ويتلقى علاجاً نفسياً يتعافى فيه من حدبته وعرجه ويخرج من ضغط ظروف التربية التقليدية المقولَبة على سنن الماضي البائدة، تلك التي كبله بها والده المتقاعد، ثم رحل إلى بلدته تاركاً إرث ماض ثاو في أوراق مكتبته الصفراء وعناوينها المزركشة، حيث يشكل انهيارها على راعيها إشارة لانفصالها عن هموم شباب العصر الحاضر.
***
كذا تتكامل حياة الاحدب فيغدو الشخصية الرئيسية عبر ثلاث مراحل: طفولة في ظل والد قاس تلتها مرحلة ثراء وتحول عبر تاثره بسومر وأخيرا سفره إلى شمال المغرب ثم منها إلى فرنسا متتبعاً خطا تانيلا، لإيصال رسالة سومر وبها تُختتم أوجاعه الفيزيائية والمعنوية باعتبارها القناة الشوكية الجامعة بين مبنى الرواية ومتنها، وبعد أن إدراكه النصوص التي ضرّجها دم سومر، هي الكل، بينما الباقي جزء موزع ما بين منتصر و مهزوم. إنها المرة الأولى التي يستقيم فيها من دون انحناء وهو يقرأ ابتهالات كل الشخصيات التي مرّت في الرواية وفي ثناياها رسالة سومر، التي ما هي إلا رسالة الكاتب. فلقد جعلت صداقة الأحدب الناجي من الموت مع سومر لحياته جدوى وهدفاً نبيلاً حرره من أسر حياته المحاصرة بمكتبة والده وخرج عن محيطه من ثرثاري الحي ومنكدي حياة الشباب وخياراتهم الثقافة والسلوكية المتحررة، وكأي جيل انتقالي كان عليهم أن يدفعوا تكاليفها، فتُقتل عناة المحامية على يد أخ يها لأنها تزوجت من غير طائفتها وتُقتلع عين حبيبها وزوجها. وانتهى الحال بعمار وبثينة بسقاية حوض الزريعة الذي تركه سومر وديعة عندهم، وبما يحمله من دلالة رمزية على المتابعة في طريق الخلاص. وأمام هذا التشتت،بقى العابثون بدمشق غارقين في غرائزهم، ووحده الأحدب، ظل يتحرّك في ثنايا السرد مشيرا للتنمية ومتابعة ما تركه سومر من إرث فكري، وكأنه يرى من قمة قاسيون أسطح دمشق وشرفات الورد، ويحمل بيده الوردة الدمشقية الخضراء المجففة بين أوراق سومر وكأنها ولدت للتو.