تزامناً مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية في العاصمة الألمانية برلين، نظّم "منتدى بغداد للثقافة والفنون" أمسية أدبية تخللها حفل توقيع رواية "عكازات العتمة" للناقد والروائي السوري أحمد أنيس الحسون، والصادرة حديثاً عن دار "ليفانت" في مصر.
أضاءت الأمسية التي حضرها العديد من المثقفين والكتاب العرب، على السرد الفني وخصائصه عند الكاتب وأهم الإشكاليات النقدية التي تناولت الرواية (346 صفحة من القطع الوسط)، إذ أثارت ردوداً عدة من حيث الطرح بعد وصفها من قبل بعض الكتّاب بـ "النصّ السهل الممتنع".
تحاول الرواية عبر فصولها الخروج من الماضي الرتيب، مسلّطة الضوء على معاناة الخروج من تحدّبات ذلك الماضي والتوجه لواقع يحتاج إلى لغة تغوص في شرايينه. وكان الحدث زماناً ومكاناً في دمشق، برمزيها نهر بردى وجبل قاسيون، وحول البلاط تضاريس جوانب عدة من الحياة اليومية بأوجاعها وآمالها على لسان كاتب مسرحي ينسج نصوصه من فوق قاسيون، متأملاً الأسطح الدمشقية وأحواض الورود على الشرفات، ويعاين زوار مقام "قابيل وهابيل" ومحاولة فهم الرغبة البشرية لممارسة طقوس الخوف، فليتقط من غبار أقدامهم القلق والتوجس والتساؤل. وعلى ضفاف بردى يرصد طاولة كبيرة للمقامرين على دمشق التي صارت تفقد معالمها يوماً بعد آخر. كما تتطرق الرواية للأحياء العشوائية بدمشق، وتوغل الأطراف المشبوهة لاكتساب مريدين لهم في المستقبل، وعلى أطراف المضارب كما البيادر تلك القبّرات التي تبكي على وجع السنابل وتخاف على فراخها.
وقد تباينت الآراء حول المعادلات الموضوعية للسرد، فقد حضرت الرموز الأسطورية الثقافية للمنطقة، وحملت بعض الشخصيات أسماء تلك الأيقونات.
كانت رحلة البحث فيها عن أسرار دمشق وتوغل ذاكرتها في وجدان عشاقها، وقد جسّد الكاتب ذلك من خلال شخصيات الرواية الذين جمعهم بيت في أحد الأحياء، فيبتكر صديقهم المسرحي حواراً فيما بينهم في صالة ذلك البيت، وكل شخص منهم يحمل اسم نهر سوريّ. كل واحد ينحدر من مدينة أو بلدة سورية، ولذلك تقمّصوا أسماء الأنهار التي تجري فيها أو عند أطرافها، فينساب الحوار بشكل لاشعوري على ألسنة الشخصيات وكأنه أصوات تلك الأنهار وهي تحكي وجع الجفاف ومآسي الجريان. فكان الفرات ودجلة والكبير الشمالي والساجور والخابور والعاصي وغيرها من روابي وأنهار تحيط بجغرافية سوريا من جهاتها الأربع، في صالة نهر بردى وهو يوزع قهوته ويؤكد للجميع أن بين ضفتيه الخوابي المكتنزة التي تخبئ الأسماء كلها حفاظاً عليها من زوارق الليل الدامس وهي تخطف الغيوم والمطر معاً.
***
تنهال التفاصيل بعد ذلك عن الحي والخوف المتقطر من وجوه الناس وتلاعب تجار الماضي والحاضر والمستقبل بعواطفهم، فيكشف ستائرها البطل المفترض ويدرك أن خروجه من دمشق يعني موته وقد تباطأ في الرحيل نحو حبيبته المغربية التي درست "الفنون الجميلة" في جامعة دمشق وكان من المفترض أن يفتتحا معاً معرضاً فنياً يتم التحضير له، إذ نشأت علاقة فنية بين نصوص المسرحي وبين لوحات الفنانة كانت في مجملها تصبّ في سواقي دمشق، فيموت الشاب ويلمح السرد إلى احتمالية أن يكون موته مُدبراً بعدما رفض عرضاً من شركة إنتاج تلفزيوني يديرها تاجر تجمعه علاقات مشبوهة بعدة أطراف وينتج مسلسلات تاريخية تنبش في ماض لا طائل منه ويقدّمها وجبة مشحونة بالهرمونات. فينتقد المسرحيّ هذا المسار ويرفض أن يعد سيناريو للنص الذي قُدّم له ويتفرغ للمسرح بوصفه من عشاقه مذ كان والده يصطحبه معه في طفولته.
يحمل النصوص شاب منعزل مصاب بإعاقة في ظهره مذ كان طفلاً وسقطت عليه مكتبة والده الضخمة المزدحمة بالكتب الثقيلة والمجلدات بحروف نافرة مزخرفة فضيّة اللون وذهبيّة، فاستقرت عقدة النقص والانزواء إلى أن جمعته الأيام مع الكاتب المسرحي الذي أخرجه من العزلة والمجلدات الضخمة إلى نص أكثر رحابة حول الحب والفن وقدرتهما على توطيد علاقة الإنسان بالإنسان على هذا الكوكب. بعد رحيل الصديق، حمل نصوصه إلى شمال المغرب ثم إلى أوربا حيث تنتهي الرواية في معرض فني كبير يتم افتتاحه بأنشودة "أوغاريت"، أقدم نوتة موسيقية تبتهل فيها الأمهات للآلهة خوفاّ على فلذات أكبادهن، فتحضر الرموز الأسطورية والأيقونات الدمشقية التي يستقيم فيها ظهر الشاب المعاق بعد انحناء طويل، ويدرك أنه كان يفكك رموز صديقه "سومر" ويغوص في قصائد عشقه لدمشق وأن النص الكبير الذي كان يعده قبل الرحيل وهو مطارد بستائر مُسدلة هو ذات النص، فالكل فيه بطل وكومبارس وجمهور وخاسر ورابح ومنتصر ومنهزم؛ الكل فيه ينعي انكسارات روحه وهو يغني للرماد ويقدمها لأبنائه وثيقة اعتذار عن انكسارات النص واللغة والحضور والخشبة الكبيرة المسيجة على حد تعبير الراوي" بلعنة السادل والمسدول".
***
تناولت بعض الأقلام الأدبية الرواية مشيرة إلى عمق معانيها ومتانة دلالاتها وقد وصفتها الشاعرة والناقدة ابتسام الصمادي بأنها ليست سهلة إن صح التعبير، فهي بحاجة لقراءة معمّقة، أو على حد تعبير الروائي: "لا أجيد ولا أحب النصوص التي تعطي مفاتيحها بسهولة أو النصوص المغلقة تماماً كي لا تضيع بصمة القارئ لأن المتلقي يضيف للنص وقراءته هي نصّ على نصّ وكل قراءة هي إضافة وإضاءة سواء اتفقنا أو اختلفنا معها".
ومن الآراء النقدية حول الرواية أيضاً، أن "الفصول لا يوجد فيها بطل منفرد، وهذا ما يميزها ويضعها في مسار سردي جديد يدفعها نحو الإبداع في الطرح والفهم، فالكل بطل فيها فقد ترك الكاتب لضمير الراوي أن يسرد لنا الأحداث وكل شخصية لديها القدرة والحق أن تدافع عن نفسها وتحدد مصيرها، فتوزعت المصائر والمسارات إلى درجة تجعلنا نختتم الرواية متسائلين: هل كنا أمام رواية وأحداث وشخصيات أم أننا أمام خشبة مسرح كبير تداخلت فيه الخشبة بالصالة من دون ستائر؟".
ينادي الراوي في الفصول الأخيرة النداء والصدى على لسان الجميع وهو يعلن الحداد على طفل يحمل باقة ورد متجهاً إلى بردى ليمنحه اسماً من تلك الخوابي فيتمزق وتتبعثر أعواد الورود، ومذ ذاك الوقت تلتصق الوجوه على النوافذ تبكي وجع تجاعيدها وتحدبات ملامحها.