تتجلى جماليات البيت الشامي القديم في عناصر معمارية متعددة منها "الفناء الداخلي" -أو ما يُطلق عليه الدمشقيون "أرض الديار" و"الإيوان" و"الفسقية" و"السلاملك" و"الحرملك" و"العتبة" و"اليوك"، وكذلك "الأبواب الشامية" بالرغم من أن عناية الشاميين ببيوتهم العربية- الإسلامية كانت تتجه عموماً إلى داخل البناء لا إلى خارجه. فالجدران الخارجية "مصمتة" وغالباً لا يخترقها شيء إلا فتحة باب الدار، بينما ينفتح البيت بكامله إلى الداخل على الفناء الداخلي، ما يؤمن عزلاً عن المؤثرات الخارجية، وهذه محاولة ناجحة لخلق جو خاص داخل المنزل، ولكن الكثير مما تبقى من الأبواب الشامية يحمل لمسات فنية بارعة وأصالة معمارية وزخرفية بارزة.
ولم تقتصر وظيفة الأبواب على حفظ المنازل من اللصوص وحجب الغرباء عنها وعزل الداخل عن الخارج، بل تحولت بدورها إلى مشاهد ثابتة توحي للزائر بإحساس السكينة والطمأنينة وتجعله يعيش مقولة الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين": "فمن رأى حُسن نقش النقاش وبناء البنّاء انكشفت له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة"، وهي بمثابة "بوابة للنور والضوء"- كما يصفها الشاعر نزار قباني: "بوابة صغيرة من الخشب تنفتح ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكي وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام، شجرة النارنج تحتضن ثمارها والدالية حامل والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا". ويضيف الشاعر الراحل في وصفه الشاعري: "هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق كما يفعل الصبيان في كل الحارات. ومن هنا نشأ عندي هذا الحس (البيتوتي) الذي رافقني في كل مراحل حياتي".
خصائص الباب الشامي
وجماليات الأبواب الشامية هي التي دفعت السيدة الفرنسية "بريان" منذ سنوات ما قبل الحرب لأن تفتتح في باريس غاليري خاصاً بنماذجها القديمة، ورأت بريان أن الباب هو واحدة من أجمل قطع العمارة الشامية، وهو باب له حياة يروي مرور الزمن وأحداثه عليه، وكذلك هو باب له قصة وليس أي باب لا اسم له مثل الأبواب المنتشرة في الدول الصناعية التي هي أبواب وظيفية ليس فيها روح أو حياة وتضيف بريان أن الأوروبيين يعشقون الأبواب الشرقية، وخاصة الباب الشامي الذي يُطلب منا باستمرار ويصنعه لنا السوريون وفق المقاييس المطلوبة.
والباب هو المدخل الذي يٌولج منه إلى داخل البناء أو المدينة، ويتألف عادة من مصراع واحد أو مصراعين، وربما أكثر، ويُفتح ويُغلق حسب الضرورة والحاجة، كما يعرف في بعض الأحيان على ألسنة العامة خطأ باسم "البوابة" وتُعقد فتحة الباب في أعلاها بقوس مستقيمة، وهي الأكثر شيوعاً، أو قد تقوّس بعقد يختلف انحناؤه حسب التصميم كما جاء في كتاب "زخارف العمارة الإسلامية في دمشق" للباحث الراحل "قتيبة الشهابي" ومنها العقد التام والعقد المحدّب والعقد الموتور أو القطاعي، وهناك قلة من العقود ذات النماذج الغربية.
وقد أبدع الفنان الدمشقي المصمم لمصراع الباب في زخرفته وتنفيذه، وكم هي كثيرة نماذج تلك المصاريع، غير أنها–بحسب الشهابي- لا تخضع لنمط محدد في الزخرفة، ولا تخرج عن كونها نتاجاً عفوياً بسيطاً ينطلق من الإحساس بجمالية التصميم، سواء كانت منفذة بالخشب أو الحديد.
ترف زخرفي
خلافا لأبواب البيوتات العادية البسيطة في مدينة دمشق وغيرها من المدن السورية، لا تخضع أبواب المشيدات الأثرية والمشيدات التاريخية المهمة لهذه البساطة بل تتصف بالعظمة والأبهة والضخامة والارتفاع أحياناً، وأحياناً أخرى بالترف الزخرفي كما هو الحال في الباب الغربي والباب الشمالي للجامع الأموي المزخرفين بالحشوات المعدنية البديعة، ولا بد لمن يدرس أبواب دمشق وعناصرها المعمارية أن يتوقف طويلاً أمام هذين البابين لما يمثلانه من وحدة فنية متكاملة تنطق بالإبداع والجمال والإحساس الفني.
يتألف الباب الغربي الأوسط للجامع الأموي من درفتين خشبيتين كبيرتين مصفحتين بالبرونز المزين بأشكال الأزهار المطروقة على هيئة ميداليات، وقد زال قسم من الحقل الأوسط والتعويض عنه بصفائح التنك الحديث ذي المظهر القميء. ويعتبر تصفيح الباب من أقدم الأعمال حتى الآن في دمشق من الناحية الأسلوبية إذ جُدّد النحاس أكثر من مرة كان آخرها في العهد العثماني استناداً إلى النص المثبت على النحاس المؤرخ في عام 923 للهجرة، ومن الصعب الاعتقاد بأن الدرفتين الخشبيتين تعودان إلى ما قبل ذلك التاريخ كما يقول الباحث "عبد الباسط العلموي" ففي سنة 1260م/ 658هـ للهجرة دخل جيش هولاكو المغولي إلى دمشق، ومن الجائز أن تكون الأبواب قد صمدت أمام اقتحام تيمورلنك فهو لم يمس المباني الدينية بأذى.
وتشير المصادر إلى أن أهم الأعمال التي أنجزت في أعقاب مرور تيمورلنك وأكثرها إتقاناً وتعود لعام 1405- 1406م كان ترميم أبواب الأموي وتصفيحها بالبرونز بمبادرة من الأميرين نوروز الحافظي وشيخ المحمودي (أي السلطان المؤيّد فيما بعد) وهدفت -فيما هدفت إليه- لتخليد ذكراهما وبالنتيجة جرى صراع على السلطة بينهما انتهى إلى مصرع نوروز ومحو اسمه من أبواب الجامع كما محي اسم أقباي قبله ومن حسن الحظّ أنّ المؤيّد اكتفى بإزالة أسماء مزاحميه وعفّ عن التصفيح البرونزي الجميل بشعاراته الرائعة. كما تقول الباحثة Élodie Vigouroux في دراسة نشرتها مجلّة الدراسات الشرقيّة في عددها الصادر عام 2012.
والباب المميز الثاني في دمشق هو الباب الشمالي للجامع الأموي الذي لحقه الكثير من التشويه، لكنه يزدان بشعار مملوكي ثلاث المناطق، وتحتوي المنطقة العلوية منه على شكل معينين محددين.
وتضم كل من المنطقة الوسطى والمنطقة السفلية للباب شكل كأس لعله شعار الملك المؤيد كما يشير الباحثان الألمانيان Karl Wulzinger و Carl Watzinger في كتابهما (الآثار الإسلامية في مدينه دمشق) أما الكتابة التي يتحلى بها هذا الباب فتتألف من النص التالي الذي انمحت الكثير من عباراته: "بسم الله الرحمن الرحيم" و "ادخلوها، هذا المبارك، عز لمولانا السلطان، وتتمه النص كما يلي: "بسلام آمنين جُدّد هذا الباب المبارك شهر الله المحرم سنة تسع وثماني مائة عمر هذا الباب المبارك مولانا السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق بمباشرة مولانا ملك الأمراء" .
الطراز الأوروبي
مع نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر نشأ طراز من الأبواب يظهر في دمشق بوضوح أكثر من أي مكان آخر من بلاد الشام، ويظهر هذا الشكل من الأبواب بصورة متفوقة في مدن أخرى من سوريا وفلسطين لكنه في دمشق الغنية بالدور المشيدة في القرن الثامن عشر يعتبر زينة الأزقة والدروب التي لم يصل إليها التأثير الأوروبي، وذلك لما تتحلى به من إطار "باروكي" وأشكال الورود المحفورة وقد استمرت سيطرة تلك الأشكال من الأبواب حتى إلى ما قبل نصف قرن مضى، عندما قضت عليها الأبواب المصنعة على الطراز الأوروبي، وللمفارقة فان هذه الأبواب الشرقية الأصيلة أصبحت تُستخدم الآن في أوروبا داخل البيوت لا خارجها لإضفاء لمسة روحيه على العمارة الأوروبية، فما زال الشرق بكل مكوناته يمثل مصدراً روحياً بالنسبة لأوروبا -كما تقول بريان انفه الذكر- أما عندنا فقد غدا ما تبقى من هذه الأبواب بقايا خربة مهجورة تصفَر في جنباتها الريح وتئنّ مفاصلها من البرد والحر والجفاف.
الحلقة الحديدية
كانت أطر الأبواب الشامية تُنحت من ثلاثة أنواع من الحجارة -كما يقول الدكتور قتيبة الشهابي- في كتابه المشار إليه آنفاً، الأول هو الحجر الكلسي الهشّ ذو اللون الأبيض الضارب للاخضرار، والثاني هو البازلت الخشن ذو اللون الرمادي العاتم أو الرمادي الضارب للأزرق المستخرج من منطقه حوران، والثالث هو الحجر الكلسي المستخرج من جبل قاسيون ويتميز بأنه شبيه بالرخام وقابل للصقل فضلاً عن العروق الحمراء والبنفسجية والصفراء التي تخترقه.
ومن المعلوم أن الأبواب الشرقية صغيرة الحجم 98 سم، لكنها تتجاوز هذه المقاييس قليلاً في بيوت الأثرياء والوجهاء، أما إذا كانت المداخل كبيرة فيكون هناك باب صغير في احدى درفتي الباب الكبير(خوخة) وهو نسخة مصغرة عن الباب الكبير بكل تفاصيله.
نواجه في الأبواب الشامية مختلف أنواع المطرقة، بدءاً بالحلق الحديدية البسيطة وانتهاء بالمطرقة البرونزية المخرمة والمنزلة، وهي ذات شكل مسطح وجوانب مسننة وتتمتع هذه الأبواب بزخارف محفورة في الخشب وتغصينات نباتيه-زخارف على شكل غصون- خلف زخارف من المسامير المغروسة في جسم الباب مؤلفه أشكالاً هندسية متداخلة غاية في الإبداع والروعة.