«هذي حكايتي»... رواية النظام المتنكرة

في أحد أيام عام 2015 خطر في بال بثينة شعبان، المستشارة السياسية والإعلامية لرئاسة الجمهورية، أن الحرب الكونية المفترضة في ذهنها على سوريا لا تهدف إلى إسقاط نظام أو تغيير سلوكه أو هزيمته عسكرياً، بل ترمي إلى ضرب الهوية والثقافة والتاريخ في بلدها، على حد تعبيرها، فبادرت إلى مفاتحة رئيسها بفكرة إنشاء مؤسسة تعمل على توثيق هذه الجوانب من حياة البلاد، فأيدها وشجعها.

خلال الأشهر التالية اجتمعت شعبان بعدد من الأكاديميين والمختصين والخبراء، مما أدى إلى إنشاء «وثيقة وطن»، المرخصة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حزيران 2016 كمؤسسة «غير حكومية غير ربحية». ورغم ذلك تقول شعبان إن ذلك لم يكن ليحدث «لولا دعم سيادته».

تعرّف «وثيقة وطن» نفسها بأنها مؤسسة بحثية تعتمد التاريخ الشفوي وتهتم بتوثيق الذاكرة عبر جمع أرشيف من الشهادات السمعية والبصرية وفق أفضل التجهيزات الحديثة والبرامج المتطورة، وصولاً إلى بناء أرشيف وطني، منظم في قاعدة بيانات، للتاريخ الشفوي يساعد الباحثين ويصنع الرأي العام ويظل مرجعاً للأجيال المقبلة.

تداول مجلس الأمناء فكرة إطلاق مسابقة عامة، يُدعى المواطنون من خلالها إلى توثيق القصص التي عاشوها بأنفسهم أو عايشوها مباشرة

أصبحت شعبان رئيسة مجلس أمناء المؤسسة الذين لا يتكرم علينا موقعها بذكر أسمائهم، وإن عُرف بعضهم، ومنهم أستاذ التاريخ سامي مروان مبيض. اتخذت «وثيقة وطن» مقراً فارهاً في حي أبو رمانة الراقي في قلب العاصمة. وخلال السنوات الماضية أطلقت عدداً من المشاريع لتدوين أوصاف الآثار المهدمة، وتصوير الحرف المهددة بالانقراض، وجمع التراث الكنسي. غير أن أبرز نشاطاتها هو «مشروع توثيق الحرب على سوريا»، الذي يعتمد على قيام فريق من المؤسسة بزيارات إلى المحافظات وجمع شهادات بصرية وسمعية من الناس فيها.

وفي هذا الإطار تداول مجلس الأمناء فكرة إطلاق مسابقة عامة، يُدعى المواطنون من خلالها إلى توثيق القصص التي عاشوها بأنفسهم أو عايشوها مباشرة، لرفد القدرات المحدودة في النهاية لفريق البحث، وتزويد أرشيف المؤسسة بعدد كبير من الروايات التي يبادر أصحابها إلى تسجيلها ربما طموحاً إلى الجائزة. وقد قُسِّم المشاركون إلى أربع شرائح عمرية، لكل منها ثلاث جوائز، ذهبية وفضية وبرونزية. أي اثنتي عشرة في العام. بدأ ذلك عام 2019، وتكرر في 2020، وأُغلق باب الاشتراك في المسابقة هذه السنة مع نهاية تشرين الأول الماضي. وبدأت اللجان عملها لفرز القصص، وصولاً إلى تحكيمها وتحديد الفائزين، علماً أن الجائزة الذهبية لهذا العام 700 ألف ليرة سورية (200 $ تقريباً).

وبالتوازي مع ذلك أصدرت المؤسسة كتاباً يحمل عنوان المسابقة «هذي حكايتي»، طُرح لأول مرة في «معرض الكتاب السوري» الذي انتهى مؤخراً. ويضم الشهادات الفائزة في مسابقتي العامين الماضيين، أي أربعاً وعشرين قصة واقعية قصيرة يُشترط أن يكون كتّابها عاشوها بالفعل أو كانوا شهوداً عليها، ولا تُقبل القصص الأدبية المتخيلة أو تلك المسموعة من الغير.

تتراوح شهادات الكتاب بين المذكرات التي كتبها عسكريون كانوا على الجبهات، وبين حكايات مدنيين عن حصار أو تهجير أو اختطاف تعرضوا له على يد فصائل معارضة أو تنظيم داعش. وهي، في المجمل، قصص متواضعة المستوى ومن المستغرب أن تفوز بين أعداد كبيرة من المتقدمين كما صرّحت المؤسسة، نحو 475 في 2019 وقرابة 800 في 2020. ولولا استناد بعضها إلى وقائع ثابتة ومعروفة من انتهاكات المعارضة المسلحة لكان الأجدر ألا يلقي لها المرء بالاً. لكن أحداثاً كتلك التي حصلت في معركة الساحل، أو عند السيطرة على مدينة عدرا العمالية بريف دمشق، أو القصف العشوائي على مناطق سيطرة النظام؛ مما لا يمكن تجاهله أو إنكاره. وهي من اللقى الثمينة التي تحرص السلطة على استثمارها واستضافة ضحاياها وترجمة شهاداتهم إلى اللغات الأجنبية.

ما يقدمه النظام من ضحايا بالمكيال يقاس عندنا بالبراميل، بل إنه تشويه جوهري عميق لمفهوم «التاريخ الشفوي» نفسه، الذي يُعرّف بأنه تاريخ المهمّشين المناهض للرواية الرسمية

في أوراقها التأسيسية تقول «وثيقة وطن» إنها تلتزم «القيم الأخلاقية السامية»، وتعتمد «حرية الرأي والتعبير وقبول الآخر»، وتتبنى «القضايا الإنسانية العادلة والحياتية المحقة»، وتحيّي «شجاعة الرأي وإخلاص الموقف». غير أن هذا لم يمنعها من الاقتصار على روايات مؤيدي النظام فقط، في تناقض صارخ مع مفهوم «الشراكة الفعالة» في رؤيتها المعلنة. إلا إذا كان المقصود بذلك ليس الشراكة مع السكان الآخرين في الوطن، بل استكمال «بطولات الشهداء والجرحى» من أهل النظام، كما تقول بثينة شعبان التي توضح أن «المعركة» ليست فقط في الميدان.

لا يجافي هذا العدالة وحق الجميع في تدوين الذاكرة الوطنية فحسب، فما يقدمه النظام من ضحايا بالمكيال يقاس عندنا بالبراميل، بل إنه تشويه جوهري عميق لمفهوم «التاريخ الشفوي» نفسه، الذي يُعرّف بأنه تاريخ المهمّشين المناهض للرواية الرسمية. لكن ذلك ليس غريباً على الإطلاق في سوريا الأسد، ومن قِبل محكّمين من أعتى مؤيديه الموثوقين، وقد عُرف منهم الصحفي نبيل صالح والإعلامية نهلة السوسو والروائي حسن حميد في دورة عام 2019، وفي مؤسسة تجلس على قمة «مجلس أمنائها» بثينة شعبان التي كانت قد صرّحت لقناة سكاي نيوز الإنكليزية، عقب مجزرة الكيماوي الكبرى في الغوطة عام 2013، أن العصابات الإرهابية خطفت الأطفال والرجال من قرى اللاذقية إلى هناك وجمعتهم معاً، وقصفتهم بالقنابل الكيماوية!!