يعود تأسيس المؤتمر القومي العربي إلى عام 1990، في تونس، عندما اجتمع عدد من الشخصيات البارزة في التيارات القومية (الناصرية والبعثية وبقايا القوميين العرب) بغية تأسيس هيئة ترفع من حال العرب المعاش، حيث وضعوا لأنفسهم أهدافاً عديدة، أهمّها "الإسهام في شحذ الوعي العربي بأهداف الأمة المتمثلة في مشروعها الحضاري، وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، وتحقيق التفاعل بين الوحدويين العرب في إطار من التنوع والتكامل، وتعبئة الطاقات الشعبية من أجل تحقيق هذه الأهداف، واتخاذ المواقف المعبرة عنها، وتوثيق روابط التعاون والتنسيق مع الهيئات المماثلة في أهدافها".
كانت الفكرة المحورية التي نشأت حولها تلك التنظيمات القومية وقبلها الإسلامية واليسارية، لكونها تأسست في فترة النضال من أجل الاستقلال من القوى الاستعمارية التقليدية، إضافة إلى حالة الاستقطاب التي تلتها بين المعسكرين، من دون نسيان قيام دولة "إسرائيل"، كانت هي النضال ضد المستعمر، الذي تطور فيما بعد إلى النضال ضد الإمبريالية، في حين كان الغائب الأساسي فكرة الحريات الفردية، وبناء على ذلك التصور العقائدي ضمن السياق في حينه، ضحّت تلك التنظيمات بمفهوم الحرية والديمقراطية، وفي النهاية بالإنسان، مقابل الوهم الذي تعلقت به، وهو مفهوم السيادة القومية، والاستقلال ومحاربة الاستعمار والإمبريالية، من دون أن تدري أن عوامل نجاح الاستعمار وإسرائيل والإمبريالية هي تغييب الحريات وسحق المواطنين.
ارتكزت فكرة القوميين هؤلاء على قراءة سياسية "لا تخطئ"، تكررها تياراتهم الأم في الجلسات الختامية لمؤتمراتهم الحزبية، وهي أن "التاريخ أكد صحة توجهاتنا"، فكانت قراءة مضللة أكثر مما هي واقعية، رغم أن الحال الذي يعيشه العرب مكشوف لدرجة الفضيحة، فهو يسير بسرعة كبيرة في الانحدار نحو الهاوية، بينما بقي الطابع الإنشائي والرومانسي طاغياً على خطاب المؤتمرين القوميين، من دون أي لحظة مساءلة للذات عن سر تراجع أحوال "الأمة"، الكلمة التي ألبسوها معنى مقدساً وثابتاً، فأخرجوها مع غيرهم من التاريخ، وأفرغوها من أي قيمة ومعنى، وبالتالي أسهموا إلى جانب غيرهم في ترسيخ الحال الذي وصلت إليه البلاد.
لم يقتربوا حتى اليوم جدياً من انتقاد وتشريح التجربة القومية المهمة -الناصرية- وما تضمنته من نموذج دكتاتوري مستلهم من تجارب أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، ومضمونها تغييب الإنسان وقمعه
بعد كل الانتكاسات التي حلّت بالعرب ، وأهمها نكسة حزيران 1967، بما بينته بشكل يفقأ العين من عوامل الهزيمة ومفاعيلها الداخلية من خطابات وتعبئة وعمليات تحريض ومناشدة للجماهير وتراثها الحضاري ولروح الأمة وغيرها من العبارات التي يعتاش عليها هؤلاء "القوميون"، لم يقتربوا حتى اليوم جدياً من انتقاد وتشريح التجربة القومية المهمة -الناصرية- وما تضمنته من نموذج دكتاتوري مستلهم من تجارب أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، ومضمونها تغييب الإنسان وقمعه، تحت حجج استبدادية من فساد الأحزاب، وضرورة التجمع حول شخصية الحاكم لتركيز المعركة ضد الاستعمار، وهنا بالتحديد شخصية عبد الناصر، الذي تحول مع الزمن لدى كثير من القوميين إلى رمز مقدس، وصار انتقاده أو انتقاد التجربة يعني ارتكاب المعصية، أي خدمة الاستعمار...
يتكشف لمتتبع لقاءات المؤتمر القومي العربي مع "القادة" العرب ابتداءً من القذافي إلى حافظ الأسد، وبوتفليقة وصدام حسين وبشار الأسد (مرات عديدة، آخرها منذ أسبوعين تقريبا) مروراً بملك البحرين "المعظم" وإميل لحود، والبشير (2004) الذي قلّد معن بشور، أمين عام المؤتمر في حينه، وسام النيلين، من دون عناء حالة المفارقة والتناقض بين ما يطرحه المؤتمر القومي من قضايا عديدة، أهمها الدفاع عن الحريات والديمقراطية والاستقلالية، ناهيك عن "الإصلاح والديمقراطية" و"الجبهة الشعبية العربية"، و"أزمة العمل الجماهيري"، وقضية "عرب فلسطين" و"الأوضاع في العراق"، و "فلسطين والأمة بعد 60 سنة على النكبة"، و"نحو تأسيس نظام شعبي عربي"، وممارسة المؤتمر العملية، حيث يظهر جلياً الشرخ القائم بين الخطاب المتركز على "القضايا الكبرى" والممارسة الداعمة لهؤلاء المستبدين.
وبملاحظة للقضايا المطروحة وتتبع مساراتها، نرى حال العرب اليوم وكياناتهم التي بلغت حالًا من الحضيض لا مثيل لها، فلا عراق باقٍ، وبلاد النيل مهددة ومقسمة، ولا حتى جزء من فلسطين، بينما تعبر قوافل الجماهير "قلعة النضال ضد الاستعمار" نحو البحار والغابات والجبال، هرباً من "قادتها" الأشاوس نحو بلاد توفر لها قدراً من الحرية والكرامة، تاركة تلك الجغرافيا للطغاة ولخطابات أهل "الكرامة"، الذين لا ندري ما هو موقفهم من "هروب" الجماهير من المعركة مع الاستعمار!
ضمن السياق نفسه، تأتي الزيارة الأخيرة، التي قام بها حمدين صباحي، مؤسس حزب الكرامة في مصر، وهو المنحدر من تجربة الحزب الطليعي والمتشبع بأفكاره، والمؤمن بضرورته التاريخية لإنقاذ "الأمة" إلى بشار الأسد، معبّراً عن تطلع المؤتمر القومي العربي بثقة وأمل لإعمار سوريا، سوريا التي بحسب رأيهم "ما تزال شوكة في وجه إسرائيل"، كونها لم توقع اتفاقاً علنياً معها، حيث يقدم هذا الوهم تبريراً لمواقف كثير من القوميين تجاه الأسد، وحزب الله (كونهما عماد المقاومة). ويستتبع ذلك الوهم، التشكيك بالثورة السورية، متذرعين بما آلت إليه وحالها نتيجة التدخلات الدولية العديدة، ليتوصلوا إلى النتيجة التي تتوافق مع تفكيرهم وبنيتهم: الارتهان لمؤامرة دولية ضد قوى (الممانعة والمقاومة) التي تعمل على مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني، أو التشكيك بقدرتها على تحقيق الديمقراطية كهدف أساسي لها.
لو كلّف نفسه صاحب حزب "الكرامة" بالاستماع إلى معاناة من تبقى من السوريين في مناطق الأسد، لعرف بالتأكيد هشاشة دعاواه وتفاهة زيارته، حيث يضطر الشباب لبيع كل ما يملكون لاستخراج جواز سفر من أجل الرحيل بعيداً عن بلد "المقاومة"
لا غرابة في أن يزور حمدين صباحي وبعض أعضاء المؤتمر القومي الأسد، الذي حوّل سوريا إلى ركام، وشرد الملايين من شعبها، ورهنها لقوى أجنبية، وباع جزءاً من أصولها، كما جعلها مرتعاً للميليشيات الطائفية وساحة لزعران الأرض. والأمر الأسوأ هو اعتقال وتعذيب وقتل المعتقلين، ومنهم قياديون في المؤتمر القومي نفسه، لدرجة حوّل فيها نظام الأسد سوريا إلى "مسلخ" بشري. ولو كلّف نفسه صاحب حزب "الكرامة" بالاستماع إلى معاناة من تبقى من السوريين في مناطق الأسد، لعرف بالتأكيد هشاشة دعاواه وتفاهة زيارته، حيث يضطر الشباب لبيع كل ما يملكون لاستخراج جواز سفر من أجل الرحيل بعيداً عن بلد "المقاومة".
بالتدقيق بحال صبّاحي، المرشح الرئاسي (2014) الوحيد في مصر أمام السيسي، الذي أطاح بنظام محمد مرسي المنتخب، حيث أقام الدنيا ضد تغول الإخوان المسلمين تجاه مؤسسات الدولة، وأسهم في التحشيد ضد حكم مرسي، من دون إدراك لقواعد الديمقراطية، ومسألة الانتقال الديمقراطي الأمر الذي يشير إلى زيف موقفه مع كثير ممن ينتسبون زوراً إلى الليبرالية، من خلال تعايشه مع حكم العسكر، كونهم من يحافظون على السيادة "القومية"، وأن معركته الثأرية هي مع الخصم التاريخي المتمثل بالإسلاميين حيث تعود جذور عداوتهما إلى الخلاف بين عبد الناصر والإخوان في الخمسينيات، ولو كان ذلك بالتعامل مع أسوأ مظاهر الحكم، المتمثل بالعسكر، الجهة التي مهما تلونت، تبقى معادية لحقوق البشر في صياغة حياتها وشكل نظام الحكم الذي يرتضون به، فالجيش، كالحزب الطليعي، له حق الوصاية.
تكشف مسيرة هذه الشخصيات وتياراتها، من خلال مواقفها من الأنظمة الدكتاتورية، هشاشة التحول نحو الديمقراطية، وتمسكها بالنموذج الفردي للحكم تحت ذرائع مختلفة لا يمكنها أن تخفي ولع "القوميين" وتياراتهم بالدكتاتوريات ورجالها ما داموا يناضلون ضد "الإمبريالية"، ويحفظون "السيادة"، أما أحوال البشر، فهي من الأمور الثانوية التي يمكن التضحية بها على مذبح القضايا الكبرى، وهم أهلها.