من الملاحظ أن الدور الأوروبي تراجع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما احتلت الساحة الدولية القوتين الأكبر (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)، حيث شغل موقع العربة الخلفية للولايات المتحدة، واستمر إلى يومنا هذا حتى بعد تفكك المعسكر الشرقي إلى كيانات ودول هزيلة تنشد اللحاق بالغرب، بمعنى آخر، نتيجة لذلك التقاسم، ومن ثم الهيمنة الكبيرة للولايات المتحدة على القرارات الاستراتيجية في العالم، ومنها منطقتنا.
وارتضى الأوروبيون أن يلعبوا في الساحة التي تسمح بها الولايات المتحدة كرديف أو مكمل لأدوارها، مع استقلال نسبي في مجال التجارة والبزنس بما تقتضيه حتى دعم للأنظمة الديكتاتورية في المنطقة وتنمية الفساد والاستبداد، وفي الوقت نفسه، غض البصر عن حقوق الناس ومطالبهم ابتداء من قضية فلسطين حتى ثورات الربيع العربي، وتحديداً في سوريا.
ففي فلسطين، كانت الدول الأوروبية من الداعمين الأساسيين لإسرائيل منذ نشأتها وبكل الوسائل العسكرية والاقتصادية، مع "احتفاظهم" بالمطالبة بتنفيذ القرارات الدولية كخطاب لفظي وسياسي، والسعي لتقديم المساعدات "الإنسانية" لضحايا إسرائيل، إضافة لبعض المساعدات الأخرى التي تضمن الحدود الدنيا من سبل العيش للفلسطينيين في المخيمات أو حتى داخل فلسطين.
وينطبق الأمر ذاته على حرب الإبادة الحالية التي تشمل البشر والمكان، حيث ينهال الدعم الأوروبي على إسرائيل، وحقها في الدفاع عن "أمنها"، وكأنها هي الضحية في الوقت الذي تذبح علناً وتجرّف البيوت وتهدم المشافي تحت تلك الذريعة الواهية "أمن" إسرائيل.
وانعكس هذا الدعم حتى في تقييد الحريات داخل بعض الدول الأوروبية عندما يتعلق في التعبير عن موقف رافض لحرب الإبادة الإسرائيلية.
تعاملت معظم الدول الأوروبية مع تهجير السوريين كقضية إنسانية أكثر منها سياسية، ناهيك عن دوافع وحاجات كل بلد، فكانت الموجة الأكبر التي فتحت الطريق لها، المستشارة الألمانية ميركل، في نهايات 2015..
مع انطلاقة الثورة السورية ضمن موجة الربيع العربي، وانسجاماً مع الموقف الأميركي الذي كان مناصراً لعمليات التغيير في المنطقة، ومنها سوريا، كان الموقف الأوروبي داعماً أيضاً، ومضى لخطوات متقدمة في دعم العملية، وخاصة السياسية والمدنية منها، فكان كثير من الدول الأوروبية أعضاء فاعلين ومؤسسين لمجموعة أصدقاء سوريا، التي تلاشت مع الزمن تبعاً لتراجع الموقف الأميركي من جهة والمتغيرات على الأرض.
وكذلك الموقف من القرار 2254، حيث استبدِل بمبادرة الخطوة بخطوة، التي لاقت المصير نفسه، وأخيراً مشروع التعافي المبكر (مشاريع البنية التحتية مثل تلك المرتبطة بالمياه والكهرباء) الذي يركّز على تنمية المجتمعات المحلية ضمن مناطق النفوذ القائمة بسلطاتها العديدة.
وغدا التعامل مع سوريا كمشكلة ينحصر في تقديم المساعدات الإنسانية ودعم المنظمات المدنية العاملة كجهات تنفيذية في هذا القطاع، وتبقى المشكلة الأكبر التي لا تزال تشكل عامل قلق وتحول في السياسة الأوروبية، تحول نحو الأسوأ، هي اللاجئون.
تعاملت معظم الدول الأوروبية مع تهجير السوريين كقضية إنسانية أكثر منها سياسية، ناهيك عن دوافع وحاجات كل بلد، فكانت الموجة الأكبر التي فتحت الطريق لها، المستشارة الألمانية ميركل، في نهايات 2015، حيث قدمِت تسهيلات كثيرة للسوريين الواصلين إلى بوابات أوروبا: اليونان وإيطاليا، وإن كانت حصة اليونان هي الأكبر، حيث استقبلت في تلك الأشهر مئات الآلاف من السوريين.
كان لهذا الموقف النبيل الذي اتخذته ميركل الأثر السلبي عليها من باقي الدول الأوروبية، لدرجة الضغط عليها لإيقاف تلك الموجة كخطوة أولى، وهو ما حصل، والثانية الاتفاق مع تركيا على منع تدفق اللاجئين مقابل تقديم مساعدات، وهو ما حصل، في نيسان 2016، النقطة الفاصلة في التضييق على عملية الهجرة، وعلى السوريين عموماً، فغدا التعامل معهم من منظور أمني فقط.
بعد ذلك (تدفق أكثر من مليون ونصف مليون سوري)، ثمة ارتدادات حدثت في القارة الأوروبية حتى على المزاج الشعبي والسياسي انعكست سلباً على اللاجئين وعلى الموقف عموماً من قضية السوريين ومطالبهم في التغيير.
وبدأت التضييقات على عمليات "التهريب" من البداية حتى النهاية، من خلال تشريعات قانونية تتعلق بما يعرف بـ"بصمة دبلن"، أي مسؤولية الدولة الأولى في تأمين الحماية على عكس ما ينشده اللاجئ تبعاً لظروفه، وبالتالي تركه في ظروف غامضة لفترة طويلة غالباً ما تنتهي بإعادته إلى ذلك البلد، وتقصير فترة الإقامات (من دائمة إلى ثلاثة أعوام وعامين وعام واحد) مما يؤخر قصداً عملية لم شمل العائلات، ناهيك عن إمكانية الحصول على الجنسية، وكلها عوامل تدفع نحو ضياع اللاجئين، وخاصة الشباب منهم.
اليوم، ونتيجة لطول الفترة من تجميد الحال في سوريا بسبب تصارع الأطراف الدولية والإقليمية وتناقض مصالحها، تراجع الاهتمام بسوريا كقضية تحرّر من الاستبداد والحلم بحياة كريمة، خاصة الاهتمام الأوروبي، ويرجع ذلك جزئياً إلى غياب الوجود الفعلي على الأرض، عدا الوجود الرمزي مع التحالف الدولي لمحاربة داعش.
كذلك، ظهرت دعوات أوروبية مدفوعة بالبحث عن حلٍ أو خلاص من قضية اللجوء واللاجئين أولاً، والمصالح الاقتصادية لكل دولة، ناهيك عن مصالح أمنية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، دعوات وإن كانت حذرة ومشروطة، لفتح علاقات مع الهياكل الحكومية السورية بحجة تحقيق الاستقرار ودعم المجتمعات المحلية، وتخوفاً من انهيارات ارتدادية أكبر نتيجة الحروب الدائرة حالياً تصب في مصلحة النفوذ الإيراني.
الغائب في الرؤية الأوروبية هو المعارضة السورية وتمثيلاتها، فقد غدت النظرة إليها على أنها كيان مرتبط بمصالح الدول الداعمة أكثر من تمثيله للسوريين، ناهيك عن غياب الوجود الحقيقي لها على الأرض، التي تسيطر عليها فصائل ذات اهتمامات بعيدة عن الرؤية الأوروبية
اليوم، مع احتمالات توسّع الحرب التي تشنها إسرائيل، ومن أجل منع زيادة نفوذ إيران، يعيد القادة الأوروبيون وصانعو السياسات تقييماً لاستراتيجياتهم تجاه إيران ونفوذها في لبنان وسوريا، وما يتعلق بسوريا، حيث يسعى الأوروبيون -بعيداً عن الحل السياسي كطريق ينهي مأساة السوريين، واللاجئين منهم ويقلص دور إيران الذي لن يتم عسكرياً حسب توجهاتهم- للبحث عن إقامة علاقات مع أطراف سوريّة يعدونها غير مرتبطة بإيران، خاصة بعد تقاسم النفوذ بين روسيا وإيران ضمن هياكل سلطات النظام، من خلال تكثيف الدعم الأوروبي للإصلاح الهيكلي في مناطق سيطرة النظام، وتشجيع الحوار والتقارب بين الأطراف الأخرى خارج تلك المناطق، وبناء قدرات هيئة حاكمة تأخذ بالحسبان مظالم العرب ضمن مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وتشجيعها على المفاوضات مع تركيا والاستعداد والنظام على أمل التوصل لحل ما، وربما الاجتماعات والمؤتمرات الأخيرة هي إحدى تلك التجليات.
الغائب في الرؤية الأوروبية هو المعارضة السورية وتمثيلاتها، فقد غدت النظرة إليها على أنها كيان مرتبط بمصالح الدول الداعمة أكثر من تمثيله للسوريين، ناهيك عن غياب الوجود الحقيقي لها على الأرض، التي تسيطر عليها فصائل ذات اهتمامات بعيدة عن الرؤية الأوروبية.
لقد بات السوري مكشوفاً وحيداً بلا غطاء أو سند، يبحث عن خلاصه الفردي سواء من خلال ركوب دروب الموت نحو الخلاص، وما يرافقه من حالات موت وضياع، نتيجة السياسات الأوروبية الجديدة تجاه اللاجئين السوريين، فهم اليوم مترددون، لكنهم يناقشون جدياً اعتبار مناطق عدة من سوريا آمنة، وبالتالي رفض اللجوء للقادمين منها، هذا التقييم الذي لا يخدم في النهاية سوى النظام الأسدي على حساب حياة السوري.
لذلك وبعد فشل الانخراط الأوروبي المباشر في سوريا، هل ستكون المراهنة على التعامل مع البنى القائمة ومنها نظام الأسد من أجل تغيير تدريجي (قد يطول لأجيال) أقل فشلاً؟