يسعى هذا المقال لتقديم تحليلٍ –شخصيٍّ في الحدّ الأدنى- لما نراه من محاولات ضمن إطار "العقلنة" في الشمال السوري، بحيث يتناول أبعادا متوازية، بدءا من التنظيم الهيكلي لهيئة تحرير الشام، مرورا بالسيطرة على الاقتصاد الرسمي إلى جانب "اقتصاد الظل"، وصولا لإشارات السعي للاندماج التي روّج لها الجولاني في الآونة الأخيرة.
شبح التفسير
في خضمّ محاولة الاقتراب من الجماعات المنظّمة هرميًّا وأفقيًّا –أيًّا كان انتماؤها وشكلها- يقع الباحثون –إلى حدٍّ ما- والناس عمومًا في كثيرٍ من التنميط والاختزال، ولعلّ هذا ما يبدو جليًّا في سيل التحليلات الجارف حول حركة طالبان وبنيتها وما سيؤول إليه الوضع الأفغاني شديد التعقيد، الأمر الذي لا ينبئُ عن قدرةٍ تحليليّة حقيقةً، بقدر ما يعكس الصورة الرغبويّة والفكرة الأيديولوجيّة لدى متصدّري التحليل أنفسهم –بغضّ النظر عن صواب التحليل من عدمه-.
ينسحبُ الأمر ذاته على المشهد السوري، فنماذج الاختزال والتنميط وأيادي التوجيه لا تكاد تغيب عن فصيل من الفصائل، -هذا ما يريد لنا متصدرو التحليل الإيمان به- وكأنّ الواقع عبارة عن مسرحِ عرائس لا وجود لإرادة ذاتيّة أو منطقٍ تفاعليٍّ بين مكوّناته، وهذا –في حقيقة الأمر- من مُثبّطات البحث العلمي ومعوّقات التحليل المستبصِر.
قد يكون من المريح اختزال أنماط التفسير إلى سياقات واضحة ومجدولة، كالسياق الأمني، والفكري، والمؤامراتي، إلا أنّ هذه الأنماط ذاتها تقود عمليّة التفكير والتحليل في سياق واحدٍ، مما يعزل النظرَ عن استجلاء جوانب مختلفةٍ وثيقة الصلة في فهم واقع التنظيم من ناحيةٍ والخلفيّة التي تنبعث فيها تصرّفاته من ناحية أخرى.
الإمساك بزمام السيطرة
لفهم موقف هيئة تحرير الشام لا بدّ من التركيز على سلسلة التحوّلات والانضمامات وإعادة الهيكلة التي قامت بها في البعد البنيوي والشبكيّ، وسنرى أنها كانت تنتقل أكثر فأكثر من العالمي إلى المحلّي، ومن المحلّي إلى التقاطع الذي تترابط فيه شبكة المصالح والعلاقات البينيّة.
سنرى أن ذلك جرى مع الانتقال من خطاب التحفيز الجهاديّ إلى المقاومة ضد المحتل، والانخلاع من "أخوة المنهج" إلى ضرورة الإزالة من التصنيف ضمن قوائم الإرهاب، والحرص من السيطرة المنبعثة أيديولوجيًّا إلى التسلّط المدنيّ والعسكري المحوكَم، وأن ذلك كله كان بدفع من القيادة في هيئة تحرير الشام لتركّز أهدافها أكثر فأكثر للوصول إلى ديمومة السلطة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقبض القوي على زمام الأمور.
تدرك قيادة الهيئة أن تنظيمها –بشكله الحالي- لن يستمر إلى الأبد، ولذا فإنها تسعى –ضمن إشاراتها لقبول الاندماج مع الفصائل التي حاربت مسمياتها ومكوناتها سابقًا- للتماهي مع متطلّبات الدخول في مظلّة تشكيلات أخرى أكثر شموليّة، إلا أنها أعدّت العدّة لذلك مسبَقًا، فلديها السلطة الكاملة –ميدانيًّا- والكوادر اللازمة أمنيًّا وإداريًّا وعسكريًّا، فقد عزّزت حضورها المدني وتغلغلها في المجالس والإدارات المحليّة والإغاثية على مدار السنوات الأربع الماضية، إضافة إلى الاستمرار في إعادة هيكلة منظومتها العسكريّة والأمنيّة التي تسمح لها بالاستمرار –والتمدّد على حدّ سواء- ضمن سيناريوهات المشهد الجديد.
أموال لا تنتهي، الهيئة واقتصاد الظل
هل أتتكَ حادثة منع دخول الملوخية من مناطق عفرين وشرقي حلب إلى مناطق سيطرة الهيئة في إدلب؟
لم يكن هذا القرار إلّا جزءًا من إتحافٍ مميّز لحكومة الإنقاذ التي أعدّت قائمة طويلة من الخضار الموسميّة الممنوعة من الدخول إلى مناطق سيطرة الهيئة، وذلك بدعوى حماية السوق المحليّة من منافسة البضائع القادمة إليها!.
هذا ما يقولُه النصّ الرسميّ المعقْلَن بيروقراطيًّا؛ إلا أنّ خلف هذا النصّ تختفي شبكة من المصالح التي تسيّر اقتصاد المتنفذين في حكومة الإنقاذ وهيئة تحرير الشام على حدٍّ سواء.
لا يقتصر اقتصاد الظل على منع التوريد، بل إنه يزداد تخمةً مع الاحتكار الواسع للمواد الأساسيّة وامتلاك شبكات التهريب والقدرة على فرض الضرائب المرهقة و"لحس الأصابع" من جراء عبور البضائع لقاء إتاوات -غير رسميّة- يضطرّ الناس للخضوع لها لاعتبارات شتّى.
بالتأكيد فهذا ليس الطريق الوحيد للثراء وتحصيل المال، فإلى جانب الفقر المدقع المتصاعد في نسبه المهولة في هذه المنطقة، تزداد الشراهة للربح والإثراء الفاحش شراسة باعتماد فروق الأسعار الواضحة بين مناطق درع الفرات وغصن الزيتون من جهة، ومناطق إدارة حكومة الإنقاذ الموقّرة من جهة أخرى، وهي بكل حال لا تذهب إلى إعمار المنطقة بقدر ما تستقرّ في جيوب المُتْرَفين والمتنفّذين والفاسدين في أجهزة الإدارة الفعلية والاسميّة فيها.
إنه المال الذي يضمن البقاء ودفع الرواتب وتسيير المؤسسات وإرضاء مساعي الطمع ويسهّل شراء الذمم، فالمال هو الكلمة السحريّة للترابط والإنشاء والتخريب والحرب والخيانة والسيطرة والفساد، إنه المطمَع الذي يدفع قضاةً لتحديد أسعارٍ متفاوتة –في كواليس خلفية- لقاءَ تخفيف الأحكام أو تشديدها، طبعًا بحسب من يدفع أكثر، بعيدًا عن الشفافية والنزاهة –في كثير من الأحيان-.
لننطلق من الأمر الواقع، فالهيئة –عبر حكومة الإنقاذ- تدير منطقة ممتدة من غربيّ عفرين إلى جسر الشغور، ومن باب الهوى إلى جبل الزاوية، وتنتظم في هيئات حكومة الإنقاذ ألوف من الموظفين، يتوزعون على وزارات وإدارات مختلفة، كالصحة والتعليم والأوقاف، وترتبط بها عشرات المنظمات الإنسانية، والشركات التجارية، غير أن العامل العسكري الحاسم في منطقة الشمال الغربي من سوريّا لا يتحقق دون قرار هيئة تحرير الشام بأخذه أو إهماله.
إن هذا كله لا يتحقق إلا بتدفق مستمرٍّ لأكياس المال المكدّسة، الذي يحصّل بمختلف الطرق ليقدّم بشكل رواتب أو هدايا أو محفّزات لمكوّنات عديدة ومختلفة أضحت منذ وقت طويل جزءًا –مهما بلغ شأنه- في آلة الهيئة، وليس من الوارد السماح بتعطيل سير هذه الآلة في الوقت الحالي.
ولعلي هنا لا أشتطُّ في الابتعاد عن تناول جوهر الموضوع حين أستذكر اقتباسًا مهمًّا -يخدم هذه اللحظة- من كتاب كارل ماركس المخطوطات [ص: 126] يقول فيه: "لستُ قبيحًا؛ لأن تأثير القبح تلغيه النقود، إنني –في شخصيتي كفردٍ- أعرجُ، لكن النقودَ تزوّدني بأربعة وعشرين قدمًا، [...] النقود هي الذهن الحقيقيّ لكلّ الأشياء، فكيف إذًا يكون مالكها غبيًّا؟
إنه كذلك يستطيع أن يشتري لنفسه الموهوبين، أوليس هذا الذي يسيطرُ على الموهوبين أكثر موهبةً منهم؟ ألست أنا الذي أملك بفضل نقودي كل ما يصبو إليه القلبُ الإنساني، أمتلكُ القدرات الإنسانيّة، أفلا تحوّل نقودي كل أوجه عجزي إلى نقيضها؟"
إن قيادة الهيئة تدرك أن المال يقوي روابط علاقات الصداقة والقرابة والولاء، ولذا فهو يحتلّ في سلّم أولوياتها مقامًا بارزًا، فبه ترتبط شبكات المصالح والأهداف، وبذلك يغدو المال رابطة الروابط، وهو كذلك في وجه آخر مناقض، عامل انفصال –إذا لزم الأمر-.
ترسيخ الأيديولوجيا، فرصةٌ للتماسك الداخلي
ربّما يكون من المستغرَب في خضمّ الحديث عن إعادة هيئة تحرير الشام تعريفها نفسها ضمن أفق أقرب للاعتدال فكريًّا، وأدعى للقَبول دوليًّا، رغم أن أحد أهم شرعييها "أبو الفتح الفرغلي" يطلّ ليقول: إنّ الهيئة لا يمكن أن تتنازل في عدد من الثوابت المعتبرة، معدّدًا إياها، ومتعهّدًا بالعمل على تحقيقِها.
حسنٌ، هذا ما مرَّ في وقتٍ ماضٍ –مارس/آذار 2021- وقد سبقه في سنوات سابقة ضخٌّ مستمر لأفكار تصبُّ في غاية التماسك الأيديولوجي والفكري، لكنها لم تتحوّل إلى واقعٍ مفروضٍ إلا في مستوى ضيّق على الأرض –الدورات الشرعية للكتائب العسكرية في جبهة النصرة والفصائل الجهادية الأخرى- كما أنه لم يتحوّل شعبيًّا إلى ظاهرةٍ متصاعدةٍ، ومن ثمّ فإن هذا تصعيد الخطاب في أثناء ذكريات الانكسار أو الانتصار، وفي خضمّ المعارك، هو المطلوب، فخطاب الحرية والديمقراطيّة لن يؤتي أكُلَه في هذا السياق، ولن يشدّ من تماسك مكوّنات الفصائل وارتباط العناصر بها.
قد يكون هذا دافعًا من قبل قيادة الهيئة للترويج لمثل هذا الخطاب في مراحل متعددة ومعيّنة، إلا أنه بكل تأكيد ليس ما يجتمع عليه القيادات، ولا هو الضوء الذي يُستهدَى به في أثناء مناقشة الخطوات المستقبلية وقبيل اتخاذ القرارات المصيريّة، وإنما هو –في أحسن أحواله لدى الهيئة- وسيلةٌ لا بدّ منها، وآليّة تفاعل وتماسكٍ تؤدّي المطلوب منها دون مزيدِ عناء أو جهد، في حين أن المصالح والعلاقات والأموال وديمومة الاستمرار–لا المبادئ طبعًا- هي الحامل الأساسيّ لسلوكها الحالي والمستقبلي.